الظاهرة الترامبية.. ما خفي كان أعظم!
حين تفوهت لورانس روسينيول، وزيرة حقوق المرأة في الحكومة الفرنسية الحالية، بعبارة حمقاء تفوح منها رائحة العنصرية (شبّهت المحجبات بزنوج ساندوا العبودية)، لجأ الفنان الفرنسي الساخر أوليفييه بيران إلى وسيلة مبتكرة للردّ عليها، فكتب على «تويتر»: «خبر عاجل: تمّ تعيين لورانس روسينيول مديرة لحملة دونالد ترامب»!
ذلك لأنّ المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية صار مبدأ قياس على صعيد عالمي، صالحاً للاقتباس أينما تجلى سلوك عنصري، خاصة لدى زاعمي الانتماء إلى الديمقراطية والدفاع عن العدل والمساواة وحرية التعبير وحقوق الإنسان. وإذا صحّ أنه ليس الأوّل في هذا المضمار، وفي المستوى الأعلى من احتراف العمل السياسي في أمريكا تحديداً؛ فإنّ ترامب، لإنصاف سواه من العنصريين، سجّل معدّلاً عالياً حقاً، أو بالأحرى فاحشاً، في الضرب بعرض الحائط بسلسلة «القِيَم» الحقوقية المنصوص عنها في الدستور ذاته الذي يُفترض أنه سوف يقسم يمين الولاء له، والحفاظ عليه.
إنه، على سبيل المثال الأول، خضع لمساءلات قضائية عديدة لأن إحدى شركاته العقارية، برئاسته شخصياً، رفضت تأجير شقق للسود وأبناء الأقليات، أو فرضت عليهم شروط تعاقد مختلفة؛ وهو يرفض إدانة بعض مناصريه من دعاة التفوّق العرقي الأبيض، وزعماء المنظمة العنصرية الشهيرة KKK، وخاصة دافيد ديوك (الذي اعتبر التصويت لغير ترامب «خيانة» للأمة!)؛ وسُجّلت عليه أقوال عنصرية ضدّ أبناء الأقوام الأصلية، إذْ اعتبر أن بعضهم «لا يبدو هندياً أحمر تماماً»؛ وقد برر، مراراً وبطرق مختلفة، العنف الجسدي الذي مارسه مناصروه ضدّ المحتجين سلمياً على ترشيحه؛ وأمّا مواقفه من المسلمين، المواطنين الأمريكيين وليس المهاجرين وحدهم، فالحديث عنها يطول ويتشعب.
ومع ذلك، فإنّ هذا كله هو الوجه الأوضح لمعادلة ترامب في الحياة السياسية المعاصرة؛ لأنّ الوجوه الأخرى، الخافية أو غير الجلية بما يكفي، ليست أقلّ خطورة في الواقع. وجه أوّل يشير إلى أنّ شعبية ترامب لم تهبط من السماء على حين غرّة، وليست ذات صلة وحيدة بالإسلام السياسي أو الإرهاب أو الأمن أو الانعزال؛ بل هي تضرب بجذورها في التربة المأزومة التي يعيشها النظام الرأسمالي المعاصر، وانعدام الأمان الاقتصادي إزاء العواصف المالية التي يمكن أن تهبّ في أية لحظة، من داخل هذا النظام ذاته؛ وكوابيس البطالة، وأشباح الركود، وأزمات البورصة، وما إلى ذلك من كوامن ليس في وسع أيّ من جهابذة التنظير لاقتصاد السوق أن يتنبأ به.
وجه ثانٍ يفيد أنّ النزوع الفاشي، الذي اتضح أنه يدغدغ نفوس شرائح عريضة من مواطني أمريكا، خاصة في قطاع الشباب، ثمّ الطبقة المتوسطة؛ يتخذ هيئات شتى، أقرب إلى وسائل التنكر المقصودة منها إلى أقنعة التخفي، تنتهي في ركائزها إلى طراز من التمييز العنصري، سبق للوجدان الأمريكي الشعبوي أن امتهنه وحوّله إلى مقولات «وطنية» شبيهة بما يتكئ إليه ترامب في خطابه الإجمالي. ولم يكن غريباً، رغم أنه صاعق، أن يدعو بعض أنصار ترامب إلى إحياء النظام العبودي، والعودة بأمريكا إلى ما قبل 1862!
وجه ثالث يخصّ مواقف النخبة، طبقة الساسة وكبار المتنفذين وأجهزة الإعلام، إزاء صعود ترامب: ثمة، لكلّ شريحة من هؤلاء، مصلحة ما، في إطار ما، عند حدّ ما، لتغذية الظاهرة الترامبية واستغلالها وتوظيفها؛ شريطة أن تُضبط في التوقيت المحسوب، وعند نقطة الذروة التي تنقلب فيها إلى ضدها. وليس حرج الحزب الجمهوري، وابتهاج الحزب الديمقراطي، وهستيريا التغطيات الإعلامية… سوى بعض تجليات هذه الحال؛ الأمر الذي لا يعني أنّ المراكز الليبرالية الكبرى، هنا وهناك في أرجاء المجتمعات الرأسمالية، لا تستشعر الخطر، ولا تشارك في الضبط والانضباط.
هذه ظاهرة غير محلية، في نهاية المطاف، وما خفي فيها يبدو أعظم بكثير مما اتضح وبان!