الطنز العكري
بعد الصمت والإنكار يأتي وقت الإقرار والاعتراف.
هذه أضحت استراتيجية الحزب الذي يقود الحكومة منذ عشر سنوات.
كلما كشفنا فضيحة تورط فيها قيادي أو وزير منهم إلا ولجؤوا إلى الصمت، وعندما نلح يلجؤون إلى الإنكار، وعندما لا يجدي الإنكار، بسبب جلاء وسطوع الحقيقة، ينتهون بالاعتراف، لكن عوض الاعتذار عن الخطأ يفضلون إخراج أعينهم وشكر بعضهم البعض على شجاعتهم التي تحلوا بها عندما اعترفوا بأخطائهم، فهذه الصلافة بنظرهم كافية لمحو هذه الأخطاء دونما حاجة لتقديم أعذار.
ثم من أنتم أيها الشعب كي يعتذر لكم هؤلاء الناس الذين قال عنهم بنكيران ذات يوم إنهم يشتغلون مع الله؟
في قضية الوزيرين الرميد وأمكراز، اللذين كشفنا عدم تسجيلهما لمستخدمي مكتبي محاماتهما في صندوق الضمان الاجتماعي، صدر بلاغ للأمانة العامة لحزبهما يعترف بأن كل ما نشرناه حول هذا الموضوع كان حقيقيًا، وأن الوزيرين خرقا القانون فعلا.
وبما أن الأمانة العامة للحزب الحاكم تعمل بمبدأ انصر أخاك ظالمًا أو مظلوما فإنها ترى أن الوزيرين رغم خرقهما للقانون إلا أنهما لم يخلا بمبادئ النزاهة والشفافية. كأنهم يريدون أن يقولوا لنا إن وزيريهما خرقا القانون بكل نزاهة وشفافية، وإنه علينا أن نصفق لهما ونشكرهما عوض أن نطالب بمحاسبتهما.
وفي الطريق تثمن الأمانة العامة للحزب مسارعة وزير الشغل إلى تسوية وضعية مستخدمي مكتبه، وتستنكر ما أسمته محاولة ركوب البعض على الواقعتين من أجل شن حملة تستهدف الحزب.
يعني أن الأمانة العامة للحزب تثمن مسارعة وزير الشغل، بعد عشر سنوات كاملة من خرق القانون، لتسوية وضعية مستخدمي مكتبه، وتستنكر ما قمنا به من تنبيه لهذا الوزير، وهو التنبيه الذي لولاه لما استفاق سعادته وسارع إلى تسوية وضعية مستخدمي مكتبه.
بعبارة أخرى فالذي يجب أن تعاتبه الأمانة العامة للحزب الحاكم على خرقه للقانون برأته والذي يجب أن تشكره على قيامه بواجبه الإعلامي اتهمته.
هذا المنطق المقلوب تلخصه النكتة المغربية التي تقول إن شرطي مرور أوقف سائق سيارة حرق الضوء الأحمر، فما كان من السائق عندما أخبره الشرطي بأنه أحرق الضوء الأحمر إلا أن أجابه:
– ماشي شي حمورية نيت…
وبهذا البلاغ فكأنما تريد الأمانة العامة للحزب الحاكم أن تقول للرأي العام إن وزيرين من وزرائها خرقا القانون، لكنهما رغم ذلك لن يعتذرا ولن يكون هناك أي ترتيب لأي أثر قانوني على هذا الخرق، بعبارة أخرى “نخرقو القانون اليوم وغدا واللي ما عجبو حال يسطح راسو مع الحيط”.
وشخصيا فهمت كل شيء في البلاغ إلا الفقرة التي يعبر فيها كاتبه عن اعتزازهم “بما يشير إليه تعاطي الحزب مع هاتين الواقعتين، من علو منطق المؤسسات والقوانين والأنظمة الداخلية والمساواة أمامها فوق كل اعتبار، وتأكيدها على مواصلة السير على نفس النهج وتعزيز العمل به وترسيخه في ثقافة وسلوك مناضليه”.
ما فهمته، وأرجو أن أكون مخطئًا، هو أن الأمانة العامة للحزب الحاكم تقول لنا إن الأنظمة الداخلية للحزب تعلو على كل اعتبار، أي أن قوانين الحزب الداخلية تعلو على قوانين البلد، وعندما يتورط أحدهم في خرق القانون، كأن يتهرب من تسجيل مستخدميه في الضمان الاجتماعي أو يتهرب من دفع الضريبة على الدخل للدولة، فإن محكمة الحزب هي الوحيدة التي لديها الصلاحية لاستدعائه واستنطاقه والبحث مع ضحاياه وإصدار أحكامها في حقه.
وهذا ما فعلته هذه “المحكمة” عندما استدعت أفرادا من أسرة كاتبة وزير حقوق الإنسان للتحقيق معهم قبل إصدار حكم البراءة في حق الوزير الرميد.
هذا التصريح الذي اقترفه كاتب البلاغ بنظري أخطر مما اقترفه الوزيران مجتمعين، لأنه يعترف صراحة بوجود مؤسسات داخل حزبهم موازية لمؤسسات الدولة، أي أننا أمام دولة داخل دولة.
وتلك قصة أخرى.
عادة عندما تكون شعبية رجل السياسة مرتفعة يستمر في منصبه، وعندما تتهاوى يقدم استقالته. هذه هي القاعدة.
في فرنسا حدث العكس، الوزير الأول إدوارد فيليب الذي ظلت شعبيته في تصاعد على عكس شعبية الرئيس ماكرون، قدم استقالته واستقالة حكومته وغادر مرفوع الرأس لكي يسير بلدية مدينة لوهافر التي فاز فيها بمنصب العمدة.
عندنا في المغرب بلغت شعبية رئيس الحكومة الحضيض، أما بعض وزرائه فقد تورطوا في فضائح لو وقعت في فرنسا لقادتهم نحو السجن بأعين مغمضة.
فقد حكم القضاء الفرنسي قبل أسبوع بالسجن خمس سنوات في حق رئيس الوزراء السابق فرانسوا فيون وثلاث سنوات في حق زوجته بسبب فضيحة الوظائف الوهمية، ولكم أن تتخيلوا لو أنهم ضبطوا وزيرًا لم يسجل مستخدميه في صندوق الضمان الاجتماعي وتهرب من دفع الضريبة على الدخل للدولة بكم كانوا سيحكمون عليه.
وبما أننا في المغرب فقد ضيع وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان الدولة في حوالي ثلاثين مليونا من عائدات الضريبة، ومثل ذلك تقريبًا ضيع زميله في وزارة الشغل على صناديق الدولة، ومع ذلك فما زال لديهما الوجه للظهور والذهاب إلى البرلمان والحديث أمام الصحافة حول ضرورة تسجيل أصحاب المقاولات لمستخدميهم في صناديق الضمان الاجتماعي.
يبدو أنه أصبح من الضروري إضافة تهمة إلى القانون الجنائي اسمها جريمة الطنز العكري، لأن هذا بالضبط ما يقوم به أمثال هؤلاء الوزراء الفاقدين ليس فقط للشعبية بل للحس الإنساني الذي يجعلهم غير قادرين على إدراك أن وجودهم في العمل الحكومي أصبح أخلاقيًا غير مقبول.