بقلم: خالص جلبي
جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث يوما فذكر ذهاب العلم، فاعترض زياد بن لبيد، وقال: يا رسول الله كيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، وسوف نقرئ أبناءنا القرآن وهم سيقرئون أبناءهم القرآن؟ قال (ص): ثكلتك أمك يا ابن لبيد أو ليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء. ومنه جاء حديث آخر ينص أننا سنتبع من قبلنا تماما، حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لفعلناه، وهو حديث صحيح فيسأل الصحابي: أهم اليهود والنصارى؟ فيكون الجواب نعم ومن سيكون؟ وهكذا فأصحاب كل دين وفكرة وملة ونحلة ينطبق عليهم القانون نفسه فلا يخرجون!
وأذكر يوما أنني ناقشت أحدهم أن كتاب «الظلال» يمكن اختصاره من 6000 صفحة إلى 600، بسبب كثرة المرادفات والإنشاء اللفظي، فضلا عن إعادة النظر في المفاهيم الخطيرة التي ربطها بالقرآن، خاصة مع تنقيحه الجديد للأجزاء الأحد عشر الأولى، حيث سكب بين الآيات مفاهيمه الجديدة عن الجاهلية والقتال المسلح وتكوين القاعدة الصلبة الواعية. ولكن كلامي لم يلق سوى حساسية مفرطة ودفاع مستميت، فكيف يمكن مناقشة أفكاره وهو كلام (الشهيد)؟ ومشكلة المتحيز أو الحزبي أنه أعمى، بدون عصا أو نظارة سميكة أو كلب يسوقه. وأي بحث معه هو حالة حرب أسلحتها الكلمات، وتكتيكها التبرير والدفاع، وطريقها واحد بدون رجعة، وشكلها لسان يتكلم عن الإله بدون أذنين للسمع.
إن هذه الطفولة الفكرية انتبه إليها لينين فكتب عن (الطفولة اليسارية)، وقام مالك بن نبي بتحليل المراحل العقلية التي يمر بها الإنسان أنها ثلاث: عالم الأشياء ـ عالم الأشخاص ـ عالم الأفكار. فالطفل لا يفرق في أيامه الأولى بين ثدي أمه والرضاعة، وبعد فترة يميز بين أمه وأبيه، وأخيرا يدخل عالم الأفكار فيميز أن الذي يحبه ليس بالضرورة صادقا وأمينا. وهذه المراحل الثلاث تدخل فيها الأمة أثناء تطورها ونضجها التاريخي. فتظن في البداية أن القوة هي في امتلاك السلاح. فإذا ترقت إلى الوثنية، عبدت القيادات السياسية المضللة وصفقت لها إلى الأبد وأطاعت السادة والكبراء، فأضلوها السبيل ومشت بالملايين في جنازة زعيم فاشل.. ولا تصل إلى عالم الأفكار إلا بظهور مؤشرات ارتفاع قدرة النقد الذاتي، وحينما اختلط الأمر على الصحابة عندما رفع معاوية المصاحف على رؤوس الرماح في معركة صفين، قال علي كرم الله وجهه كلمته المشهورة: «ويلك لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله».
وإمكانية الفصل والتمييز بين (الشخص) و(الفكرة) تجعلنا نتعامل مع الشخص ليس بكراهية وحب، مثل المريض فلا نكرهه، بل نكره (المرض) الذي يحرمه من النشاط، وأفكار سيد قطب وآثارها البعيدة ليس هناك من قام حتى اليوم بوضعها على مشرحة النقد الذاتي، لأنه (الشهيد) ولذا فأفكاره متعالية لا يقاربها الخطأ أو يلامسها النقد. ومن أعجب الأمور أن الناس حينما تطرح عليهم فكرة أن البشر غير معصومين ونحن لا نتبنى فكرة الكنيسة عن عصمة البابا، هزوا رؤوسهم بالموافقة، ولكن نقاش أفكار بعض الناس يثبت أنهم معصومون. وهذه الآلية أشار إليها «ابن تيمية»، أن الناس لا يختلفون على القواعد النظرية، ولكنهم يختلفون أشد الاختلاف عند التطبيق. ومن هذه الأفكار تلك التي طرحها سيد قطب عن (الحضارة)، حينما شطب بجرة قلم كل الإنتاج الإنساني، حينما اعتبر أن (المجتمع الإسلامي هو وحده المجتمع المتحضر، والمجتمعات الجاهلية بكل صورها المتعددة مجتمعات متخلفة). وهكذا يمكن أن نمشي على رؤوسنا دفعة واحدة، بدون أن نشعر بالدوار، فنعتبر أن ألمانيا واليابان متخلفتان. وعندما تعرض لفكرة مالك بن نبي المحورية عن الحضارة أنها جهد إنساني حدث منذ عشرة آلاف سنة، وقامت بموجبه عشرات الحضارات، وكانت مزيجا من الإبداع المادي والثقافي كما يعرفها «ديورانت»: «نسيج متشابك ومعقد وهش من العلاقات الإنسانية، يتسم بالجهد في صنعه والسهولة في تدميره»، اعتبر أن هذه الفكرة هي غبش في الرؤية، وأنه كان كذلك قبل أن يقنص الحقيقة النهائية، وأن مالك بن نبي (يكتب بالفرنسية)، وأن إضافة كلمة (حضارة) على المجتمع الإسلامي هي من لغو الكلام. وهي الإشكالية نفسها التي واجهت الثورة الإيرانية، هل تسمي نفسها جمهورية؟ وبذلك يتم إلغاء كل الجهد الإنساني ومغامرات العقل الإنساني في أسطر قليلة. وخطر هذا الفكر أنه يعرض صاحبه للانفكاك من المركبة الحضارية العالمية في فضاء موحش خال إلا من الإشعاعات المميتة. بقي أن نعرف من قطب أين نجد المجتمع الإسلامي؟ هل كانت أيام (المستكفي بالله) الذي سملت عيناه وسجن حتى مات، أم «الراضي بالله» الذي حكم يوما واحدا، أم السلطان «محمد خان الثالث» العثماني، الذي افتتح حكمه بخنق 19 أخا له بفتوى من شيخ الإسلام، قبل أن يدفن أباه مراد الثالث فيدفن العشرين في مقبرة جماعية. أو فاتح القسطنطينية الذي قتل أخاه الرضيع مع تولي السلطة، أم كان أيام السلطان «خوش قدم» من المماليك الذين خلع منهم 23 وقتل خمسة وسجن أربعة حتى الموت وخنق واحدا وشنق واحدا واختفى واحد، وكان أعقلهم «جقمق» الذي استقال بعد أن تحول العرش إلى كرسي الإعدام.
نافذة:
مشكلة المتحيز أو الحزبي أنه أعمى بدون عصا أو نظارة سميكة أو كلب يسوقه وأي بحث معه هو حالة حرب أسلحتها الكلمات