الطب والأطباء في زمن الوباء
نزار بدران
انتشرت بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، أخبار العمل الرائع الذي تقوم به الأجهزة الطبية، في دول العالم قاطبة، في مواجهة جائحة كورونا، ويتحمل الأطباء والممرضون عناء كبيرا، ومخاطرة بحياتهم وحياة أسرهم، ولكن لم نر أي فرد من الأجهزة الطبية مهما كان موقعه، يرفض الانضمام إلى هذا العمل الجبار. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأبحاث العلمية على قدم وساق لإيجاد دواء أو لقاح لهذا الداء، بأسرع ما يمكن.
الاعتبار الكبير الذي أظهره الجمهور، في كل مكان، للأطباء والممرضين والكوادر الطبية في كافة دول العالم، والتصفيق اليومي لهم، في كل العواصم والمدن، شيء يثلج صدر هؤلاء، ويدفعهم طبعا إلى بذل المزيد، وأنا كاتب هذه السطور كطبيب، أشعر بنوع من إعادة الاعتبار لمهنة الطب، وكل ما ارتبط بها من مهن وأعمال.
هل هذا التضامن العالمي مع الأجهزة الطبية، هو فقط من منظار الدعم والتقدير والشكر، أم أن له دوافع أخرى؟ لو نظرنا إلى أي مشكلة كبيرة في العالم، فإن الأنظار تتجه دائما لحلها، إلى صناع السياسة، وبعض الأحيان رجال الاقتصاد، لأنهم وبشكل طبيعي، في موقع القيادة.
هذا صحيح في الدول الديمقراطية، وكذلك في الدول غير الديمقراطية، والتي لا يستطيع الزعيم أن يقبل أي منافسة له بأي مجال.
جائحة كورونا أظهرت وبشكل واضح عقم العمل السياسي وحده، لمواجهة وقيادة العمل في هذه الحرب، ضد المجهول اللامرئي.
وأظهرت أيضا، عقم الاقتصاد ورجاله، وفي معظم الأحيان دفعهم في الاتجاه المعاكس، أي الاستمرار في البيع والشراء للربح، وكأن شيئا لم يكن، وتصريحات الرئيس ترامب، أو بولسونارو في البرازيل لدليل على ذلك.
وحدهم الأطباء والأجهزة الطبية بكل أشكالها، من حمل راية الرد والقيادة.
لم يعد الجمهور يرى رجال السياسة والاقتصاد على مستوى الحدث، وخصوصا أن وسائلهم الاعتيادية لم تعد فعالة، مثل تكديس الأسلحة والترسانات النووية ومليارات الدولارات بالبنوك وعدد لا يحصى من البرامج والاتفاقيات السياسية والاقتصادية.
كل هذا في رأي الناس لم يعد فعالا، ولم يؤمن لهم أبسط الأشياء، مثل الكمامات وأماكن في المستشفيات. هم إذا أصبحوا وجها لوجه أمام هذه الجائحة، ولم يجدوا سوى الأجهزة الطبية، للإبقاء على الأمل في النصر في النهاية.
نحن عندما نسمع التصفيق من المواطنين في شوارع ميلانو أو مدريد أو باريس أو إسطنبول، نفهم أن هذا هو أيضا تعبير عن القلق والخوف، وما الالتفاف حول الأطباء والتصفيق لهم، إلا تلك الوسيلة لإبعاد هذا القلق الوجودي.
لا ينسى الأطباء في كل دول العالم، بما فيه أوربا، الصعوبات التي يواجهونها منذ عشرات السنين، لتأمين حاجات المستشفيات، بالأدوات والأدوية والكفاءات العلمية، ولا يجدون إلا إداريين، لِيُنَظروا عليهم، طرق حسن الإدارة وتوفير المال، بدل حسن العلاج وتوفير العناء على المرضى.
لا ينسى الأطباء، بما فيه الغرب، الكم الهائل من الدعاوى القضائية بحقهم، بسبب وبغير سبب، بهدف كسب المال، وإغناء المحامين، دون أي اعتبار لعملهم.
وباء الكورونا أعاد للطب خصوصيته، كعمل إنساني وليس عملا تجاريا، كما تعودنا عليه بالسنوات الأخيرة، حيث يمكن رفض مريض في مستشفى، لعدم قدرته على الدفع للإدارة.
في معظم الأحيان، لم تعد هذه المستشفيات ملكا، أو مُدارة من الأطباء، وإنمـا من قِـبل شـركات تجـارية، ذات هـدف ربـحي فـقط.
جائحة كورونا ستعيد الاعتبار، للبعد الإنساني، وأمل في دور قيادي للأطباء، لتحديد أهداف ووسائل عملهم، وتعيد مفهوم، أن الطب هو رسالة وليس تجارة. جائحة كورونا، أظهرت أن الجندي المجهول، أو المعروف، هو الطبيب أو الممرض، أو العامل في المختبرات.
أن يرفض بعض الناس، قليلي الفهم ذلك، كما فعل أبناء إحدى القرى المصرية برفض دفن طبيبة، توفيت بمرض الكورونا بسبب عملها، أو حتى في فرنسا أن يطلب سكان إحدى العمارات من ممرضة تعمل ضد كورونا مغادرة سكنها، حفاظا على سلامة السكان، تبقى أعمال على الهامش قليلة، رغم أنها تُتداول بكثافة عبر وسائل الإعلام.
أن يتهم البعض الأطباء، بالمشاركة في مؤامرة دولية، باختراع هذا المرض، يبقى أيضا تعبيرا عن أفكار بعض المجانين في هذا العالم، وليس مجموع الناس.
في سابق الزمان، زمن وباء الكوليرا عام 1830 في أوربا، أو ما سبقه من أوبئة، كان الناس يتهمون الأطباء بأنهم مسممون متآمرون مع الأغنياء للتخلص من الفقراء، وكثير من الأطباء تم قتلهم لهذا السبب.
في عام 1885، رفض سكان مونتريال في كندا التطعيم ضد الجدري، ومنعوا الأطباء من ممارسة ذلك بالقوة، وهو ما أدى بالنهاية إلى موت عشرات الآلاف.
هذا الزمن قد ولى، ونأمل أن جائحة كورونا ستبني زمنا جديدا، حتى تعود العلاقة بين المريض والمجتمع من جهة، والطبيب من جهة أخرى، إلى مسارها الإنساني الطبيعي، أي علاقة ثقة واحترام وليست علاقة تجارية، تخضع لقوانين البورصة.