شوف تشوف

الرئيسية

الطاعون.. الموت الأسود

الأمراض والتاريخ.. وكيف يصنع كل منهما الآخر

خالص جلبي
مع كتابة هذه المقالات بلغت القلوب الحناجر. مرض يجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه، عدو خفي لا يرى مكبرا إلا مائة ألف مرة. مذكرا بجائحة 1918م حين  أصيب ثلث الجنس البشري، واستقبلت المقابر ملايين البشر على غير موعد. ليس من غريزة أعمق من خوف الموت، كما يقول الفيلسوف هوبز. ويتحدث القرآن عن الموت وأننا نخاف منه ونحيد؛ فليس أجمل من تلك اللحظات النادرات الجميلات ونحن نعبر جدول الحياة ونرى أولادنا من حولنا يضحكون. الآن نحن مع الجائحة مبلسون. هنا يدخل الطب حاملا الأمل في صحة غامرة، وانشراح نفس لا يضاهى، ومتابعة للحياة بنسل جديد، هو خير منه زكاة وأقرب رحما. من خلال فهم قوانين عمل الجسد والروح، بين فسيولوجيا، وروح تتسرب إلى كل خلية. فيروس كوفيد 19 وحّد مصير الجنس البشري، وتصرف بديموقراطية صارمة كما أظهر هشاشة بني آدم، وكان اللغز المحير عن معنى الصحة والمرض.. ولكن الجنس البشري عانى في تاريخه الطويل من جوائح شتى فخرج منها منتصرا وهو ما سيكرره مع مرض كورونا. وسلسلة المقالات هذه تصب في هذا الاتجاه لاكتشاف عظمة الخلق فينا.. وفي أنفسكم أفلا تبصرون.

أكتب هذه الأسطر من بيتي في مونتريال ـ كندا مع مطلع عام 2020م وقد حدث أمر هو الأول من نوعه في تاريخ الإنسان، أن يحبس الناس في بيوتهم من ووهان الصينية، مرورا بالرباط المغربية، وانتهاء بنيويورك أمريكا. الأمر سببه جائحة الكورونا التي أخذت اسم كوفيد تسعة عشر (COVID 19). الإسم جاء من ثلاث كلمات (مرض فيروس الكورونا Corona – Virus – Disease) أما رمز 19 فجاء من زمن حدوثه في عام 2019 حين اندلع.
أن يحبس الناس على امتداد قوس الكرة الأرضية هو الأول من نوعه في تاريخ البشرية وقد قفز الرقم إلى 7.8 مليارا من الأنام، سبح الناس فيه بين التهويل والإشاعات والحقيقة. وبين الثلاثة نسب. وقانون الإشاعات يقول إن الإشاعات تتدحرج مثل كرة الثلج فتكبر ثم تأخذ في النهاية حجم الحقيقة أو الوهم فتتبخر ويضحك الناس.
الإشاعات مضت بين تخطيط عالمي مدمر للبشر والاقتصاد، وبين فيروس تمت صناعته أو انسل لواذا من مصانع لم تضبطه. لكن الشيء المؤكد أنه فيروس خبيث رأينا فيه من أحب الناس إلينا من سقط صريعا فهو تحت الإنعاش الصناعي في العناية المركزة ثم قضى نحبه فلم يعد، أو من أوهن عظمه وهد حيله، وكان أقرب إلى الموت فنجا بعلاج مكثف وعناية فائقة.
أهمية هذه الجائحة أنها ليست الأولى في تاريخ الإنسان فهناك كوارث عظمى مرت على الجنس البشري بدء من طواعين العصور الوسطى (عام 1348 م) حيث أهلك ثلث سكان الأرض. لا ننسى كارثة عام 1918م التي أخذت إلى المقابر أكثر من هلك في الحرب العالمية الأولى. وبمراجعة كتاب الفيض (سلسلة عالم المعرفة 415 + 416) نطالع الكارثة في أرقام مخيفة من الأموات. وسمي خطأ بالجريب الاسباني والمرض انفجر من أمريكا وأخذ ملك الموت أكثر من 550 ألف جثة إلى عالم البلى والنسيان.
لا ننسى مصيبة الايدز تلك التي فجرها المثليون (قوم لوط) ومازال بدون علاج ولقاح بعد أن أهلك ثلاثين مليونا من الأنام. ويروي لنا التاريخ قصة مرض الزهري وهو فصل عجيب من فصول الإباحية الجنسية إلى أين تقود، وإذا كانت جائحة 1918 عجيبة لأننا وقتها لم نكن نعرف بعد عالم الفيروسات فضلا عن عدم وجود المجهر الإلكتروني؛ فإن مرض الزهري (Syphilis) بقي غامضا لمدة أربعة قرون، قبل أن يصل (فريتس شاودن) إلى تحديد سبب المرض أنه اللولبية الشاحبة بشكل الأفعى (Treponema Pallidum).
من الطواعين إلى الإفرنجي إلى الأيدز والزيكا والسارز والإيبولا وبينها أشكال من الرعب متفرقة في تدمير النسيج البشري، ثم الخلاص والفوز بين مناعة تشكلت، ودواء أحكمت صناعته، لنفاجأ في نهاية عام 2019 م باندلاع فيروس الكورونا؛ فوجب لهذا العهد تسجيل هذا التسلسل من الأمراض، وكيف تصنع التاريخ، أو أن التاريخ يصنعها، موعظة للناس وتنبيها للغافلين، في ثلاث حقائق: عن وحدة الجنس البشري، ووحدة العدو، وضعف الحضارة. وكان الإنسان ضعيفا وخلق هلوعا جزوعا.
ولكن مهلاً فما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه دواء فيه شفاء للناس جهله من جهله وعرفه من عرفه. وفي سلسلة أبحاثنا الصيفية سوف نتعرف على عجائب خلق الله في أجسادنا.

بقي مرض الطاعون كابوساً مرعباً في الذاكرة الجماعية للجنس البشري؛ فلم يحصد مرضٌ عدداً من البشر مثل الطاعون، فهو الذي قوض دولاً بكاملها، وأفنى شعوباً بأسرها، ومسح مدناً من وجه الأرض، وصدع حضارات عظيمة، وبقي الناس يتذكرونه وهم يرتجفون من هول الفزع، وحَسِب الناس أن هذا المرض المرعب أصبح في كتب التاريخ نسياً منسياً، ولكن أحداثا في الهند قبل فترة ليست بالطويلة حملت معها نبأ قيام هذا الغول من مرقده التاريخي، في وقت تحولت فيه الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة تنتشر فيها الأخبار بسرعة الضوء، ويسافر فيها الناس قريباً من سرعة الصوت.

رعب التاريخ
ما المرعب في هذا المرض؟ ماهي قصته التاريخية؟ ماهي إنجازات الطب في التصدي له؟ بل ماهي فلسفة انتشار المرض عموماً؟ ولماذا تقفز أمراضاً إلى الواجهة بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً مثل الأمراض الجنسية في الإفرنجي والإيدز؟!
أو مفاجأة الكورونا مع نهاية عام 2019م؟ دعنا نتأمل المرض خارج حلقة التهويل ودائرة الفزع، بعد أن اقترب الطب الحديث من حافة سر السرطان ولغز الجينات والجراحة عن بعد.
في صيف عام 1992 م كنت في زيارة لمتحف اللوفر بباريس مع صديق لي، وفي إحدى القاعات جمدنا أمام لوحة ضخمة جداً، رائعة الجمال، بديعة الألوان، لمرضى يموتون في شر حال وأسوأ مصير، وعندما ازددنا فيها تحديقاً هتف زميلي الدكتور نبيل قائلاً: إنه الموت الأسود .. (الطاعون PLAGUE)!.
كانت اللوحة أكثر من رائعة،  تجلت فيها عبقرية الرسام بألوانٍ ثابتة لم تؤثر فيها بعد يد الزمن،  تناثر فيها مرضى (الطاعون) في قاعة كبيرة بين مفارق للحياة،  وآخر مستسلم لمصيره ينازع في سكرات الموت، مربد الوجه قاتم الجلد من معاناة (الموت الأسود)،  وثالث شاحب الوجه ممتقع القسمات، مدَّ يده يطلب العون وما من معين! في حين وقف القائد الفرنسي (نابليون بونابرت) بين جنوده في مستشفى (يافا) مقطب الجبين، عابس الوجه، خائر القوى، قد ركبه الهم وعلاه الإحباط واستولى عليه اليأس. هذه المرة لم يكن نابليون يواجه الجنرال (ثلج) كما في الجبهة الروسية بل جنرال (الموت) على شكل عدو غامض لايرى إلا بتكبير آلاف المرات!
هذه اللوحة تنقل منظراً بسيطاً وفصلاً لايستهان به من منجل الموت الذي كان يحصد به مرض (الطاعون) حينما ينتشر سواء في المدن أو الحملات العسكرية وعقابيل الحروب الدموية الرهيبة.
دمر الطاعون دولاً، وأباد شعوباً، ونكس حضارات، وهزم لوحده حملات عسكرية جبارة يقودها عسكريون محنكون لم تنفعهم حنكتهم في مواجهة هذا (الجنرال) المخيف. الموت الأسود (الطاعون)!.

هزيمة نابوليون
وقف (الجزاَّر) حاكم عكا (1) من فوق أسوار مدينته يضحك ملء شدقيه على نابوليون وهو يجرجر ذيول الهزيمة،  بعد أن كان يطمح في تناول لؤلؤة الشرق بيده (القسطنطينية) فنابوليون كان يرى أن (استانبول) تصلح أن تكون عاصمة العالم الذي يطمع أن يعتلي عرشه، هذه المرة كان الجنرال (طاعون) بجانب حاكم عكا (الجزار) كما كان الجنرال (شتاء) بجانب الروس في هزيمة نابوليون على أبواب موسكو بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً (عام 1812م) (2).
يخبرنا التاريخ أن بونابرت بعد أن استولى على مصر في نهاية القرن الثامن عشر (1798م) تحرك نحو بلاد الشام في حملة عسكرية جديدة؛ فاستولى على يافا، وتابع طريقه إلى عكا، حيث حاصرها لمدة شهرين بدون جدوى، ثم بدأ  الطاعون يفتك بجيشه العرمرم؛ فولى مدبراً ولم يعقب، وتنقل لنا كتب التاريخ هذه الفقرة: (وجاء الجيش الفرنسوي إلى بلاد الشام بجراثيم الطاعون فانتشرت فيها واستفحل أمرها في حصار يافا. ووصل بونابرت في 16 مارس (1799م) إلى مدينة عكا فلقي فيها مقاومة شديدة لم يكن يتوقعها؛ وجرح الجنرال (كافارلي) جرحاً مميتاً فطلب قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة أن تتلى على مسامعه المقدمة التي كتبها (فولتير) لكتاب (روح الشرائع ـ مونتسكيو) فاستغرب القائد الأكبر هذا الطلب؟
وبعد حصار دام شهرين رأى بونابرت عدد جيشه يقل شيئاً فشيئاً من جراء اشتداد الطاعون عليه وفتكه الذريع. حينئذ صمم على العودة إلى مصر، بعد أن تقلص ظل المقاصد الواسعة التي كانت تجول في تلافيف دماغه! وتدور رحاها على قطب الشؤون الشرقية، وتجعله يتنقل بالفكر من ضفاف السند إلى شواطيء البوسفور وقد قال فيما بعد: (لو سقطت عكا لغيرتُ وجه العالم،  فقد كان حظ الشرق محصوراً في هذه المدينة الصغيرة)، وفي 20 مايو صدر الأمر بالانسحاب، ووصلوا إلى يافا في 24 منه؛ فكانت المستشفيات فيها تغص بالمرضى، حيث كانت الحمى الوبيلة تحصدهم حصداً، فعادهم القائد الأكبر متفقداً أحوالهم،  وقد بلغ التأثر منه أكبر أثر حين شاهد ماصاروا إليه وماكانوا يشعرون به من العذاب. وشاور بونابرت أصحابه في الأمر فقالوا له إن كثيرين منهم يطلبون الموت بإلحاح، وأن مخالطتهم للجيش تكون وخيمة التبعة عليه، وأن الحكمة والمحبة تقضيان بتعجيل وفاتهم ساعات، والإجهاز عليهم، وذكر بعضهم أنهم جرعوهم شراباً عجل موتهم) (3)؟! كان الجندي من حملة نابوليون يتساقط من الضعف والإعياء وهو الشاب القوي الجلد الذي دخل مع بونابرت معارك لاتحصى،  يسقط من عدو مجهول لايراه ولكنه يشعر أنه دخل في دمه وعظامه وتمكن منه أيما تمكن! كان يسقط وبسرعة صريعاً لليدين والجنب؛ يغلي من الحرارة،  في حالة هذيان من التسمم الدموي الرهيب، زائغ النظرات، متشنج الأطراف، مربد الوجه، مكفهر القسمات، يزحف إليه الموت بسرعة،  ينفث قشعاً مملوءً بالدم، قد تغطى جلده بآفات نمشية وكدمات حولته إلى لون قاتم أسود، ومن هنا جاء وصف الطاعون بـ (الموت الأسود) فكأن ملك الموت جاءه يصبغه بالقار قبل قبض روحه؟!

هوامش ومراجع:
(1) راجع في هذا كتاب تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي جزء 2 ص 288 دار الجيل بيروت ـ عن كتاب بونابرت لأهل مصر عن سبب رجوعه عن حصار عكا (2) انسحب نابوليون من عكا في 20\5\1799م، كذلك انسحب من موسكو في 19 \ اكتوبر من عام 1812م
(3) كتاب تاريخ نابوليون الأول تأليف طنوس الحويك الجزء الأول منشورات دار ومكتبة الهلال ص 131 – 134

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى