شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الصين ـ أمريكا وتشكل الأقطاب

 

بيار عقيقي

 

يزداد الحديث عالميا عن نشوء تكتلات أو تجمعات إقليمية، تُصنف أنها «قوة ثالثة» أو «قوة من خارج الاصطفافات»، غير معادية للمحورين الأساسيين: الولايات المتحدة ومعسكرها، والصين وحلفائها. يبدو المشهد، للوهلة الأولى، وكأنه تكرار لمرحلة بروز دول عدم الانحياز إبان الحرب الباردة (1947ـ 1991)، وتناغمها بين شرق سوفياتي وغرب أمريكي.

المفارقات عديدة هنا في تفاصيل الاختلافات: لا تفاهم إقليميا مشابها لتكتل دول عدم الانحياز. إذ إن التكتلات الإقليمية الناشئة بالشرق الأوسط، وجنوب شرق آسيا، وإلى حد ما أمريكا الجنوبية، تنبع من محيط جيوبوليتيكي محدد، لا يتمدد جغرافيا، بل اقتصاديا. ولا ينوي إمالة ميزان القوى لمصلحة طرف على حساب آخر، ولا حتى فرض رؤيته على أي قطب عالمي خارج سياق محاولة بناء علاقات ندية، تحميه في إطاره المناطقي.

مفارقة أخرى، وهي الأساسية، لم تعد روسيا قطبا عظيما في العالم، بل تحولت إلى مالك محطة الوقود الذي لا يشتري منه سوى زبائن محددين وبأسعار يفرضونها هم. أضحى الصينيون عمليا حبل النجاة الوحيد للدولة الروسية، غير أن مثل هذا الحبل يطول ويقصر بحسب الحاجة الصينية الاقتصادية إلى روسيا، وأيضا في حال تحقيق تفاهم مع الأمريكيين. قد تكون المرة الأولى التي يتجه فيها الروس شرقا بغرض الحصول على النجدة، بعدما تمددوا تاريخيا لأسباب عسكرية مرتبطة بحماية الوجود الروسي في موسكو.

وضمن المفارقات ما يبرز في الجناح الفرانكوفوني في المعسكر الغربي. تغرق فرنسا في جدالات وخلافات عميقة مع العديد من مستعمراتها السابقة، إلى درجة أن روسيا، أو «فاغنر»، تهرول لملء الفراغ الفرنسي، في مقابل متانة موقف الجناح الأنغلوساكسوني لدى الغرب.

يبدي الألمان في هذه الحمأة استعدادهم، على يد مستشار اشتراكي مغاير لاشتراكيي ثلاثينيات القرن الماضي، للعودة إلى القمة الأوروبية عسكريا، بهدف التحول إلى ثاني أقوى جيش بحلف شمال الأطلسي خلف الولايات المتحدة. الطموحات الألمانية تعد مشروعة، بناء على ريادة برلين اقتصاديا وسياسيا بالقارة الأوروبية. يتحرك الإيطاليون كما هو تاريخ روما: مصالحنا في غرب البحر المتوسط أو على ضفته الجنوبية لأوروبا، إذ في الشمال تَصُد جبال الألب تمددا إيطاليا إلى القلب الأوروبي. وما تحركات رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني بتونس، أخيرا، سوى تأكيد لمبدأين: يمينيتها الفاقعة في ملف المهاجرين غير النظاميين، وترسيخ تاريخ غابر من السياسة الإيطالية الخارجية.

في مقابل ذلك كله، يبدو الطرفان الأقوى على الكوكب حاليا، الولايات المتحدة والصين، وكأنهما يدركان حجم التحولات الجارية، التي لا تُنقص من قطبية أحدهما في الوقت الحالي، خصوصا أن حاجة الصين إلى الدولار الأمريكي أكبر بكثير مما يظنه بعض المتحمسين لـ«إنهاء هيمنة الدولار». كما أن الحاجة الأمريكية إلى الصين لا تشبه أي حاجة أمريكية إلى أي دولة في التاريخ.

النقطة الأهم هنا أن الفراغات التي تستولدها نهايات دول أو تجمعات، والتي كان العالم متوجسا منها، قد اختبرت نموذجا سابقا لها، بانهيار الاتحاد السوفياتي ثم يوغوسلافيا، في مطلع تسعينيات القرن الماضي. مُلئت تلك الفراغات سريعا، بنفوذ إقليمي مرتبط بدولة عظمى. أي فراغ مستقبلي مماثل، لن يخرج عن السياق نفسه، غير أنه سيكون أقل تبعية لقطب أعظم، لكنه أقل حدة في التعامل معه. شيء يشبه لامركزية عالمية متحركة لا تخرج عن ثوابت المركزية وقوانينها. في مثل هذا العالم، لا وجود لـ«تعدد أقطاب» مستقل بالمطلق، بل تناغم ينكسر حين تصل الأمور إلى مبدأ «من ليس معنا فهو ضدنا».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى