إذا دخل المريض المشفى عولج بالمغذيات ومنع من الطعام، وفرض عليه الصيام فيشفى.
ومارس غاندي اللاعنف في وجه الطغيان السياسي، فكان الصيام أهم أسلحته.
وعقد ابن خلدون فصلا في مقدمته الشهيرة عن أثر الغذاء في تشكيل الأخلاق.
وفي الحديث أن السكينة والوقار في أهل الغنم، والخيلاء والفخر في أهل الإبل، ربما لنوعية البروتينات التي يتناولها الإنسان. وربما كان هذا السبب في تحريم لحم الخنزير، لعلاقة البروتينات بالأخلاق.
مع هذا علينا أن نعترف أن المحرمات تقوم على قاعدة الخبث، فيحرم ما كان معظمه أو جله ضارا وبالعكس للطيبات.
قال الرب: «يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث»، عرفنا هذا في الخمر وهو كذلك بالتأكيد للميسر والقمار، ولكن ليس ثمة دراسات موسعة عن معنى تحريم لحم الخنزير وأثر بروتينات لحمه، أو طبيعة الأمراض التي يحملها بعد أن سمعنا عن جنون البقر بأكل اللحوم ومشتقاتها بدل الغذاء النباتي الطبيعي.
عندنا نصوم لننام فإذا أكلنا أكلنا نهما، وإذا شربنا شربنا شرب الهيم، والصيام لم يشرع لذلك.
وبهذا فإن أسلوب المقاومة السلمية أو اللاعنف هو نوع متطور أخلاقي للممانعة والمقاومة، ولكن يفهمه البعض أنه تعطيل للجهاد وهو ولادة للإرادة، فلم نسمع عن عشب صام أو قط انتحر، والإنسان يفعل الاثنين فيعمل ضد غريزته بوعي وحرية وإرادة.
وعمليا تحولت العبادات عندنا إلى ضرب من الطقوس، فلا نصلي خشوعا ولا نصوم وعيا، ونحج طوافا وقد نهرس بالأقدام من حولنا ونعتبرها تقوى، ولا نعلم أنه اليوم الأعظم للناس للتفاهم وشحن الروح السلامية للعالم على نحو دوري.
تحول العبادات إلى طقوس خطيرة يشبه عمل حزام محرك السيارة بدون وصلة بالدينامو لشحن البطارية، فتتبخر الكهرباء من السيارة، وترجمة هذا إلى علم الاجتماع تظهر بغياب الفعالية من حركة المجتمع مع كل حرارة الطقوس، لأنها لا تؤدي وظيفتها.
وفي السياسة إذا بطشنا بطشنا جبارين. فإما انتحرنا أو نحرنا، فلم نعد نرى الله ذلك الذي وسعت رحمته كل شيء، وأن شمسه تشرق على الأشرار والأبرار جميعا. تأمل مذابح سوريا على يد الشبيحة في عام 2012م، ترجمة للوحشية واستلاب الخلق.
اجتمعت بطبيب عربي تخصص في أمريكا ويحمل جنسيتها وعندما سألته عن سبب تركه لأمريكا كان جوابه أنه يخشى على أولاده من الفساد، والرجل قد تخصص في بؤرة الفساد.
وصف البعض الدوغمائية أنها الوقوع في التناقض دون الشعور بذلك، وهذا يذكر بقصة مالك بن نبي عن أولادنا، الذين يذهبون للتخصص في الغرب فلا يفهمون الغرب إلا مراقص ومخابر؛ وبوابة الحضارة هي إحدى اثنتين؛ فإما كانت مزابل أو مقابر. وهي ليست هذا ولا ذاك.
يصعب علينا في العادة أن نتصور ضغط الثقافة، ولو سألت أي إنسان هل وصلت إلى ما تعتقد بتمحيص ونقد شديدين، أم أنك تفعل ما تفعل بسبب التقليد؟ لأكد بما لا يدع مجالا للريبة، أنه وصل إلى العقيدة الصحيحة بتمحيص وعقل واقتناع، لكنه لو ولد في بافاريا بألمانيا لكان ربما قسا كاثوليكيا، ولو ولد بين قبائل الزولو لربما عبد شجر الغابة، والانتباه إلى هذا التفريق أصعب من قطع الأنف بالمنشار بدون تخدير. كما يقول الجاحظ عن فهم المسائل العويصة القريبة.
أبغض الأشياء على النفس الانتقاد ولا تسكر النفس بخمر كالثناء، وهناك نوع من التساؤلات تمثل الأرض الحرام فلا يلج معاقلها أحد، فإن فعل رجم. يجب أن نعترف أننا ولدنا في بيئة إسلامية، ونقول ونعترف أننا رأينا آباءنا يصومون فنحن مثلهم نصلي ونصوم، ولكن السؤال ماذا لو ولد أحدنا في التيبت أو ألمانيا أو اليابان؟
يسهل أن نتصور أن أحدنا لو ولد في إيران سيكون شيعيا، ولو ولد في تركيا سيكون سنيا على المذهب الحنفي، ولكن هل يمكن أن نتصور أن أحدنا لو كان من السيخ، ما استغني عن عمامته وما قص شعره إلى يوم الدين؟ فهناك أقدار كما نرى تتحكم فينا وتدفعنا إلى أن نفكر بعمق أمام هذا السؤال المزلزل، فنكون أكثر تسامحا مع الآخرين.
الصيام لا يخص المسلمين فقد كتب على الذين من قبلنا، ولم يكن للمسيح عليه السلام أن يدخل التجربة، قبل صيام أربعين يوما.
تخضع الآلة لمبدأ القصور الذاتي، وتمسك الغريزة بتلابيب الحشرة، ويعلن الإنسان بالصيام ثلاثا (الوعي) و(الإرادة) و(الحرية) في مركب ثلاثي متفرد.
يضحك الإنسان والحيوانات لا تعرف ذلك، ويكتئب ويبكي على فقد عزيز، والحيوانات لا تشعر بمن يغادرها، والعجول تمضي للذبح فترى الموت وهي تخور. الحرية ليست الإباحية بالاستسلام المطلق أمام اجتياح فرق الغريزة، والحرية الفعلية هي الصبر أمام أسار الضرورات، والهبوط لا يحتاج إلى طاقة، ولكن الصعود يحتاج إليها. الطائرة عندما تنزل تستهلك أقل قدر من الوقود، وهي عند صعودها تستهلك أكبر قدر منه، والحضارة تقلع على أجنحة الروح، وتنكب على وجهها مع انطلاق فرامل الغرائز؛ لذا كانت الحضارات دوما ذات بعد أخلاقي.
من يملك نفسه يملك العالم، والغنى ليس ما نمتلك بل بما نستغني عنه، وكان سقراط يمر في السوق فيرى الناس يتهافتون على الاستهلاك فيصيح متعجبا: «يا إلهي ما أكثر الأشياء التي لست في حاجة إليها!».
الصيام إذا شريعة الأنبياء، وهو أسلوب غاندي في الجهاد المدني، اللاعنف، وهو إعلان ولادة الإرادة وضبط الغرائز تربية للنفس. وهو فوق كل هذا مطهر بيولوجي للجسم؛ فلا يمارس أحد الصوم إلا وشعر بالراحة والخفة. ومع كل نقص في الوزن يصبح الإنسان أكثر جمالا ووجهه أكثر شبابا.
وهكذا ففي نقطة الصوم تلتحم الفلسفة مع الدين والسياسة مع البيولوجيا. وعلة الصوم هي التقوى، والتقوى تحريض آليات الضبط الذاتي. وهذا يقترب من المستحيل لولا التدريب المستمر.
في الصيام تتدفق الحكمة من القلب على اللسان. ولم يتنزل القرآن إلا في رمضان. ولم ينطق يسوع المسيح بالحكمة إلا بعد أن جاع أخيرا؛ فدخل في ثلاث تجارب وعرف أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكل كلمة طيبة تخرج من الفم.
نافذة:
الصيام إذا شريعة الأنبياء، وهو أسلوب غاندي في الجهاد المدني، اللاعنف، وهو إعلان ولادة الإرادة وضبط الغرائز تربية للنفس. وهو فوق كل هذا مطهر بيولوجي للجسم؛ فلا يمارس أحد الصوم إلا وشعر بالراحة والخفة. ومع كل نقص في الوزن يصبح الإنسان أكثر جمالا ووجهه أكثر شبابا.
وهكذا ففي نقطة الصوم تلتحم الفلسفة مع الدين والسياسة مع البيولوجيا