الصوت الغائب
لا أحد ينكر المجهود الكبير الذي تقوم به لجنة النموذج التنموي، في إطار جلساتها التشاورية الموسعة مع فاعلين سياسيين ونقابيين واقتصاديين وثقافيين ومسؤولين عن مؤسسات دستورية ومقاولات عمومية ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرهم، قبل صياغة التقرير النهائي للنموذج التنموي لمغرب الغد ورفعه إلى الملك، لكن هذا المجهود يبقى مبتورا في ظل غياب مساهمة الفاعل الإعلامي في رسم معالم النموذج الذي سيؤطر السياسات العمومية، خلال العقد ونصف المقبلين.
لن نستبق الأحداث ولن نركن لسوء الظن لإعطاء تفسير سلبي لتأخير اجتماع أعضاء اللجنة مع ممثلي الجسم الإعلامي بالمغرب، فلابد أن هناك تبريرا مقنعا لدى شكيب بنموسى يخفف من هواجس الإعلاميين، ويجعل التأخر في لقائهم له دلالته الإيجابية. لكن بغض النظر عن ملابسات غياب أو تغييب الفاعل الإعلامي عن المشاورات، فإن السؤال العريض الذي يفترض أن يجيب عنه أي مشروع مجتمعي وطني منتظر، هو كيف يمكن للإعلام أن يكون رافعة وشريكا وأن يساهم في بناء النموذج التنموي وتحقيق غاياته في الدفاع عن البلد والتراجع عن قضايا المواطنين؟
ليس هناك تجربة في العالم حاولت صياغة النموذج التنموي أو الانتقال الديمقراطي أو التحول من نظام سياسي ودستوري معين إلى شكل آخر من نظام الحكم، دون التوفر على رؤية واضحة لموقع الإعلام ولدوره في إنجاح مشروع الجهوية المتقدمة، والتجربة المغربية لن تخرج عن هذا الثابت الكوني، فنحن لن نخترع العجلة ولا بد أن التجارب التي اطلعت عليها اللجنة الاستشارية، تزكي القناعة لديها بدور قبيلة الإعلاميين في صناعة المستقبل.
وما يزكي الحاجة إلى تقوية سلطة الإعلام، أن بلادنا تواجه كل يوم تحديات داخلية وخارجية تحاول تهديد السير العادي للمؤسسات والمس بثوابتنا الجامعة وعيشنا المشترك، من خلال تزكية عناصر الهدم والاستهداف وإثارة الفتنة تارة باسم أجندة حقوق الإنسان المفترى عليها وتارة أخرى باسم الدين المكذوب عليه، وحينا آخر بالاختباء وراء يافطة الديمقراطية، والحقيقة أنها وجوه لعملة واحدة همها الأساسي ابتزاز البلد، والعبث بأمنه ومصالحه العليا. والحقيقة فإن جزءا من الصحافة المستقلة وذات الحس الوطني، أدركت ما عليها من مسؤوليات تجاه وطنها ولم تتوان في عز الأزمات والأوبئة في الدفاع عن القضايا العادلة والمصالح الوطنية، دون أن يؤثر ذلك في منسوب مهنيتها وحرصها على تقديم الواقع كما هو دون تحريف أو تزييف.
واليوم مسؤوليات الإعلام بكل تلاوينه أصبحت أكبر من مجرد خوض معركة صغيرة هنا أو هناك، أو مراقبة قطار تأخر في الوصول إلى محطته، فالسياق هذه المرة يفرض على رجال ونساء الإعلام مهمة مصيرية تتجلى في المشاركة في الدفع بعربة تنمية الوطن إلى الأمام، حيث لا يمكن لدولة قررت في لحظة زمنية أن ترسم مستقبل الغد، دون انخراط الفاعل الإعلامي في إنجاح هذا القرار المصيري للدولة والمجتمع والأجيال القادمة.
وحتى يستطيع الإعلام المستقل والحر أن يلعب دوره الكامل في النموذج التنموي المنشود وإنجاح رهانات مغرب الأجيال القادمة، فإنه يحتاج إلى توفير بيئة قانونية ومالية وسياسية لحماية الصحافة المستدامة والمهنية والوطنية من المصير المجهول، الذي دخلنا نفقه. فلا يمكن توقع تنمية ناجحة للمغرب المنشود، دون إعلام محصن ضد شبح الإفلاس الذي يحيط بالمقاولة الإعلامية من كل جهة، وكابوس تشريد الصحفيين ووضع مصيرهم بين أنياب البطالة، أو بين أيدي جهات أجنبية لديها من الإمكانيات المادية ما يفوق الوصف. لذلك فالأمر يحتاج إلى مساندة قوية من الدولة، فلم تعد وسائل الإعلام تستطيع أن تقوم بمهامها في التنوير والإخبار وصناعة النخب الوطنية والمحلية دون دعم مالي وتحفيزات ضريبية ومنظومة قانونية مشجعة، وهذا ما لجأت إليه دول عريقة وذات مقاولات صحفية مرموقة مثل فرنسا، التي خصصت 480 مليار سنتيم لإنقاذ الصحافة من حافة الإفلاس في زمن الوباء.
لكن لا ينبغي أن تفهم هاته المساندة المطلوبة على أنها عمل خيري وإحساني موجه من الدولة للصحفيين في إطار «الإعلام مقابل الغذاء»، بل من المفروض أن يتم أي دعم محتمل في إطار برنامج عقد بأهداف واضحة ومحددة زمنيا، دون التدخل في استقلالية الإعلام وحريته، حتى لا تذهب أموال دافعي الضرائب سدى.
وهناك العديد من الصيغ والإجراءات التي تسمح بضخ قدر من الأكسجين في الجسم الإعلامي، ليستمر في العيش والمساهمة في إنجاح المشروع التنموي، لكن ما ينقصنا هو الإرادة السياسية وشعور الدولة والمجتمع بالحاجة إلى الخدمة الإعلامية، لتحصينها من المخاطر والأزمات المحدقة.