لكي نفهم سر غضب رئيس الحكومة من خروج صفة «الآمر بالصرف» لمبلغ خمسة وخمسين مليار درهم، مخصصة لتنمية العالم القروي من يده، ومنح هذه الصفة لوزير الفلاحة عزيز أخنوش، علينا أن نعود إلى صفحة في الفيسبوك رفعت شعار «جميعا من أجل منح حزب بنكيران الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية المقبلة».
هذه ليست أول مرة يحدث أن يكون فيها صندوق لا يملك عليه رئيس الحكومة سلطة الآمر بالصرف، فهناك صناديق كثيرة على شاكلة صندوق تنمية العالم القروي، ولم يحدث أن غضب رئيس الحكومة بسبب ذلك، لكنه اليوم فعل.
المسألة إذن كلها تدخل في إطار «ردان الصرف»، فبنكيران لم يهضم بعد الكلمة المطولة التي نقلتها الإذاعة مباشرة لصاحب دعوته إلياس العماري في تطوان أمام الملك في غيابه، لذلك سمعناه يقول عاقدا ما بين حاجبيه ضاربا على الطاولة أمام فريقه النيابي، إن إلياس سيظل «بانضي» حتى ولو أصبح رئيس جهة. وقد اكتفى رئيس الحكومة في الأول بتسريب هذا الاتهام للصيرفي الذي ينطق وينشر باسمه لكي يضعه على صدر منشوره، لكن بعدما وقعت حادثة الصندوق أعطى بنكيران تعليماته بنشر شريط خطبته كاملا، حيث يهدد الجميع قائلا إن الدولة «ماشي ديال محمد السادس بوحدو»، هكذا حرفية بلا جلالته بلا الله يحفظو، كما تعود على ترديد ذلك، مضيفا أنهم مستعدون للموت وأن «اللي جا قدامهم غادي يدوزو فيه».
لذلك قرر هذا الأخير التراجع عن قرار منح وزير الفلاحة تفويضا بصرف مليارات صندوق دعم العالم القروي وطلب تعديلات لم تأخذ بعين الاعتبار في القانون الذي أرسلته الأمانة العامة إلى القصر.
وما يؤكد هذا «الطرح» هو أن رئيس الحكومة لم يكن يوما حريصا على تطبيق الدستور حرفيا، وكثيرا ما قفز فوق بنود دستورية تحت ذريعة تخليه طواعية عن بعض صلاحياته حتى لا يصطدم بالمؤسسة الملكية، فأية ذبابة لسعته اليوم حتى يتمسك بصلاحية الآمر بالصرف؟ علما أن الدستور ينص على تفويض رئيس الحكومة جزء من صلاحياته لوزرائه.
ثم إن صندوق تنمية العالم القروي ليس الصندوق الوحيد الذي لا يتحكم فيه بنكيران شخصيا، فهناك صناديق يشرف عليها الخازن العام للمملكة مباشرة
كالوكالة المغربية للتعاون الدولي، وحسابات خاصة بالقروض الممنوحة لدول أجنبية، في إطار العلاقات الخارجية، وصندوق التكافل الاجتماعي، إلى جانب مبالغ تصرف لمواجهة الكوارث الطبيعية، تفعيل السياسات العمومية، خاصة صندوق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
والسبب هو أن ما يهم رئيس الحكومة ليس تنمية العالم القروي بل تحديدا تنمية أصوات العالم القروي في أفق انتخابات 2016، وقد سبق لرئيس الحكومة أن اعترف بعظمة لسانه بأنه وحزبه يشتغلون في الحكومة لصالح الذين صوتوا عليهم، وعليه فإن رئيس الحكومة كان يعول على هذه الخمسة وخمسين مليار درهم لكي يأمر بصرفها حسب ما يراه مناسبا لرؤيته الانتخابية.
فحزب العدالة والتنمية وصل إلى الحد الأقصى من الأصوات في المدن وليس باستطاعته أن يحصل على أكثر مما حصل عليه، لذلك فالمعركة الحاسمة بالنسبة إليه للحصول على الأغلبية المطلقة هي اكتساح أصوات العالم القروي.
ولهذا خطط رئيس الحكومة، مدعوما بتجربة مستشاره محمد رضا في تدبير الموارد المالية، لتوفير مبلغ مهم من صندوق المقاصة عندما ألغى الدعم عن المحروقات.
لكنه أصيب بصدمة عندما تلقى رسالة توجيهية تأمره بوضع هذا المبلغ في حساب خاص وعدم إدراجه في الميزانية العامة، إلى أن استقر ذلك في صندوق تنمية العالم القروي الذي قرر الملك أن يشرف وزير الفلاحة، الذي لا انتماء حزبي له، على مصاريفه.
اعتراض رئيس الحكومة على إشراف وزير الفلاحة على التحكم في مصاريف الصندوق هو في الواقع اعتراض على مشروع ملكي يضع في حسبانه العشر سنوات المقبلة وليس سنة المتبقية في عمر الحكومة.
وبالنسبة لوزير الفلاحة فقد كان واضحا وخرج إلى الصحافة وقال إن رئيس الحكومة كان على علم بالبند الذي يعطيه صفة الآمر بالصرف لصندوق تنمية العالم القروي، وإن تشكيكه في هذا الأمر يدل على انعدام الثقة بين رئيس الحكومة ووزيره، ومثله صنع وزير المالية، فيما رئيس الحكومة فضل الصمت، مفوضا أمر التعبير عن غضبه لأحد أقرب مستشاريه، محمد رضا، الذي يتكلف بإيصال «الخبز» ساخنا إلى صحيفة ناطقة باسم الحزب الحاكم، وكأن الرأي العام ليس من حقه أن يعرف رأي رئيس الحكومة في واحدة من أخطر الأزمات السياسية التي تهدد الحكومة بالانشقاق.
فقد بدأنا نسمع عن استعداد الفريق البرلماني للحزب الحاكم للتصويت ضد قرار منح صفة الآمر بصرف أموال هذا الصندوق لوزير الفلاحة، وإذا حدث ذلك فستكون سابقة عالمية، لأن المفروض في الفريق البرلماني للحزب الحاكم أن يدافع عن مشاريع قوانين الأغلبية الحكومية لا أن يعرقلها.
ولعل هدف رئيس الحكومة من تسريب موقفه الغاضب من سحب صفة الآمر بالصرف منه ومنحها لوزير الفلاحة، هو التهرب من المسؤولية، فالرجل وعد الفقراء والأرامل بالدعم المالي المباشر، وها هو يكتشف أن الصندوق الذي عول عليه لكي «يرش» به الطبقات الفقيرة بانتظار أن يجني أصواتها، لم يعد تحت سلطته المباشرة. مما يعني أن بنكيران يقول لهؤلاء الناس إنه إذا لم ينفذ وعده بمساعدتهم فلأن «الفلوس ما تعطاوش ليه»، ولذلك فهو منذ الآن يتدرب على خطاب المظلومية، فهو لم يطبق شعار محاربة الفساد والاستبداد لأن التماسيح لم تتركه يفعل، وهو لم يلتزم بوعده بصرف المال للفقراء والأرامل لأنهم لم يمنحوه حرية التصرف في صندوق الخمسة وخمسين مليار درهم «وقولبوه» في المجلس الحكومي ودسوا له بندا لم ينتبه إليه.
ويبدو أن السياسة كما يفهمها بنكيران هي أن تعطي الوعود لا أن تفي بها.
وقد أشار إلى ذلك بطريقة «التقلاز من تحت الجلابة» التي يجيدها، عندما قال في تقديمه لقانون المالية بحضور وزير المالية، إن رئيس الحكومة ليس مفروضا فيه أن يكون عارفا بكل شيء، وإنه لا يحب أن يفسد على العريس ليلة عرسه.
شخصيا بمجرد ما أسمع بنكيران وبعض وزراء حزبه يتغزلون في المؤسسة الملكية، أفهم أن جدار الثقة بين هذه المؤسسة والحزب الحاكم اهتز.
وهذه المرة يمكن أن نقول إن جدار الثقة الذي ظل يبني فيه رئيس الحكومة منذ أربع سنوات، أصيب بتشقق خطير يهدد بسقوطه. فأن يصل الأمر إلى حدود معارضة رئيس الحكومة لمشروع ملكي الهدف منه إنقاذ العالم القروي من الفقر والهشاشة التي تهدده، لمجرد الحصول على توقيع أوامر الصرف، فإن هذا يعكس درجة التصادم التي وصل إليها رئيس الحكومة مع المؤسسة الملكية.
ولا يجب بهذا الخصوص أن ننخدع مما يقوله رئيس الحكومة حول أن «الملكية مكاتلعبش، وأنها صمام أمان وأنه لا يصلح للتنازع مع الملك»، وأن «الملك ماشي هو الدولة ويجب أن لا نتركه وحده»، ولا أن ننخدع بما ردده بشكل ببغاوي وزير النقل والتجهيز في كندا حيث أصدقاؤه «البومبادريون»، نسبة إلى شركة بومبارديي للطيران، عندما طالب الحاضرين بالصلاة ركعتين يوميا شكرا لله على الملكية.
إذا كان رئيس الحكومة وحزبه وحركته الدعوية يحرصون على مستقبل الملكية فعلا كما يقولون، فعليهم أن يعرفوا أن إنقاذ العالم القروي ليس مشروعا انتخابيا ظرفيا، بل هو قشة الخلاص بالنسبة للبلاد برمتها.
فقد أظهرت جميع التقارير الدولية وتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتحاليل «الفورين بوليسي»، إنجيل مصطفى الخلفي الذي يرقى إليه الشك، أن المغرب يسير بسرعتين متفاوتتين، واحدة متسارعة في العالم الحضري وأخرى متباطئة في العالم القروي، وأن من شأن هذا التفاوت أن يعرقل التنمية في البلد برمته.
وفي مقال «الفورين بوليسي»، الذي توعد كاتبه الأمريكي الذي جالس الخلفي لحظات قبل كتابته، المغرب بـ«داعش» في حالة ما إذا استمرت الفوارق الطبقية، نجد أن الحل لتجنب الاصطدام الشعبي بين الطبقات هو تحقيق تنمية متكافئة بين جميع مناطق المغرب، وخصوصا منها تلك المهمشة.
مما يعني أن إنقاذ العالم القروي هو مشروع دولة مستمرة في الزمن وليس مشروع حكومة عابرة محكومة بالصراعات الحزبية والتقاطبات المرحلية.
إلا إذا كان بنكيران وحزبه يبحث لكي يدفع في اتجاه تأزيم الوضع الاجتماعي فهذا موضوع آخر. فحزب العدالة والتنمية يعي شيئا بالغ الأهمية والخطورة في نفس الوقت، وهو الحزب المجرب لأهمية حساب التوازنات مع القصر ومحيطه، وهو أن العامل التاريخي في انفتاح النظام السياسي بالمغرب إثر اهتزازات الشارع المغربي سنة 2011، كان عاملا تاريخيا حاسما تم استغلاله بنجاح، ولو تطلب الأمر الدفع باتجاهه من جديد فليس هناك مشكل.
لكن الحزب يعي أيضا ضرورة الحفاظ على مبررات اشتعال الشارع ونهوضه، وهنا لا نجازف عندما نصل إلى استنتاج خطير مؤداه أن ليس في مصلحة الحزب أن تبعده السلطة عن الشارع ومن مصلحته أن يبقى احتمال تحرك الشارع واردا، فبهذا التحرك يكون في موقع مريح وهو يتفاوض على السلطة.
الاحتقان الشعبي الناتج عن الوضع الاقتصادي المتدني للطبقات الشعبية والوسطى، وخصوصا العالم القروي، يصب في الحساب السياسي للعدالة والتنمية، وإذا كنا قد عرفنا في أي حساب ببنك «سانتاندير» تصب التحويلات المشبوهة للصحافي الصيرفي المكلف بإيصال رسائل رئيس الحكومة، فإننا نتساءل في أي حساب سياسي «خارجي» يصب الحساب الداخلي للعدالة والتنمية؟