شوف تشوف

شوف تشوف

الصحة مقابل الحرية

عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية. وعندما تمرض في السجن لا تفكر بالحرية، وإنما بالصحة… الصحة إذن تسبق الحرية .
علي عزت بيجوفيتش

بينما العالم غارق في دفن موتاه وإسعاف مرضاه وحماية مواطنيه، هناك حرب تسمع دقات طبولها من بعيد توشك أن تندلع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. سوى أن هذه الحرب لن تكون مواجهة مباشرة بين القوتين بل ستدور رحاها في أرض أخرى والتي ليست سوى أرض العراق، حيث يسود النظام الإيراني ويسلح مليشياته من أجل ضرب المصالح الأمريكية هناك. وطبعا فهذه الحرب وراءها حسابات تجارية ونفطية بالأساس، فحرب البراميل التي اندلعت بين روسيا والسعودية توشك أن تتسبب في إفلاس شركات إنتاج الغاز الصخري الأمريكية، وصبر ترامب لن يدوم طويلا لأن أصحاب هذه الشركات هم بعض أهم داعميه في الانتخابات، ولكي ينجح في العودة إلى البيت الأبيض سيكون عليه أن يخوض حربًا خارجية لكي يغطي بها على هزيمته الداخلية أمام كورونا.
ومنذ الآن بدأ ترامب يبحث عن مشاجب يعلق عليها فشله، فبعدما اتهم الصين مباشرة بتصدير الفيروس ها هو يهدد منظمة الصحة العالمية بقطع المنحة المالية التي تصرفها لها الحكومة الأمريكية بدعوى أن المنظمة أصبحت تشتغل لصالح الصين.
واليوم هناك توجه عالمي مدعوم من واشنطن لتقديم شكاية بالصين تتهمها بالتستر على الوباء في بدايته والتسبب تبعًا لذلك في قتل عشرات الآلاف حول العالم، ولم لا مطالبتها بتعويضات كما سبق أن فعلت عائلات ضحايا 11 شتنبر مع السعودية.
واضح أن ترامب لم يستطع أن يهضم بسهولة كيف أنه عندما تحتفل مدينة ووهان بإعادة فتحها مجددا وعندما تحتفل الصين بأول يوم دون تسجيل أية إصابة بالفيروس نرى كيف يتساقط الأمريكيون بالآلاف ضحايا لـ”الفيروس الصيني” كما يسميه ترامب.
علينا أن نعرف أن الصين واحدة من دول قليلة استطاعت أن تحقق ما يسمى السيادة الرقمية والتي بفضلها هزمت الفيروس. واليوم فمفهوم الاستقلال ليس أن لا تكون مستعمرا من طرف دولة ما بل أن لا تكون سيادتك الرقمية تابعة لدولة ما.
وعمليًا كل الدول التي تستخدم شعوبها فيسبوك ويوتيوب وواتساب وبقية التطبيقات التابعة للعملاق الأمريكي غوغل هي دول وشعوب مستعمرة رقميًا. أما الصين وروسيا مثلا فلديهما استقلال وسيادة رقمية لأنهما تستعملان تطبيقات محلية ولديهما عمالقة رقميون محليون، في الصين مثلا هناك الثلاثي الذي يضم «علي بابا» و«بايدو» و«تينسينت».
وبفضل هذه المنصات الرقمية أصبحت الدول العظمى تخوض ضد بعضها البعض ما يسمى بالديبلوماسية الرقمية Digital diplomacy والتي تعني استخدام الأنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة للتواصل مع جمهور خارجي بهدف خلق بيئة تمكين للسياسة الخارجية لبلد ما. وقد شاهدنا ذلك من خلال الضجة التي قامت حول مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوربي وحول انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، حيث أشارت أصابع الاتهام لروسيا محملة إياها مسؤولية التدخل رقميًا في الشأن الداخلي لهذه الدولة والتأثير على الناخبين والرأي العام فيها.
إذن فالدول التي لم تحقق استقلالها وسيادتها الرقمية ستظل تحت رحمة عمالقة مثل غوغل وأذرعه التي تجمع أدق المعطيات الشخصية عن مستعملي منصاتها وتطبيقاتها.
في أمريكا لا يستطيع عمالقة التطبيقات الرقمية القيام بما يحلو لهم، لذلك فأيديهم إلى حد ما مغلولة، فحريات الأشخاص محمية بالقانون، وكلنا نتذكر مثول مارك زوكربيرغ صاحب فيسبوك أمام لجنة مجلس الشيوخ للإجابة على اتهامات استغلاله للمعطيات الخاصة للمواطنين الأمريكيين لأغراض تجارية.
في روسيا والصين، وإيران، آخر ما تهتم به حكومات هذه الدول هو شيء اسمه الحريات الخاصة، فالدولة هي صاحبة الشركات العملاقة في الاتصالات والتطبيقات وتقوم بوضع رجل قش على رأس هذه الشركات، مثل مدير علي بابا في الصين.
وبفضل هذا الاستقلال الرقمي استطاعت الصين أن تضع جميع مواطني شعبها تحت الرقابة الدقيقة، وبشكل مستمر.
طبعًا الجميع يعتقد أن الصين هزمت فيروس كورونا فقط لأنها طبقت الحجر الإجباري الصارم وأوقفت جميع أشكال الحياة الاجتماعية في المدن المصابة وشيدت في رمشة عين مستشفيات ضخمة لعلاج المصابين. لكن الحقيقة أن الصين، التي يوجد بها ربع سكان العالم، نجحت في معركتها ضد الفيروس بفضل خوارزميات الذكاء الصناعي.
في الصين ليس هناك غوغل ولا واتساب ولا خدمة أوبير، ومقابل ذلك هناك تطبيقات صينية محلية يستعملها جميع الصينيين.
ومكن هذا جهاز الدولة طوال عشرين سنة الأخيرة من جمع أدق المعطيات عن جميع المواطنين عبر هذه التطبيقات، وعبر 170 مليون كاميرا على طول التراب الصيني. كل رسالة قصيرة ترسلها، كل مطعم ترتاده، كل سيارة أجرة تستقلها، أي مكان تذهب إليه، كل الأشخاص الذين تلتقيهم، كل الفواتير التي تتوصل بها، كل الرواتب، الصور، الفيديوهات… كل هذا تتوصل به السلطات على مدار الساعة ويتم جمعه في مركز بيانات ضخم. وبفضل تقنية التعرف على الوجه عن طريق الكاميرات المتطورة الموزعة في كل مكان يتم تحديد مكان وجود أي مواطن عند الحاجة.
عندما بدأ وباء كورونا استعملت الحكومة الصينية قاعدة المعطيات هذه. وبمجرد ما تتأكد إصابة شخص بفيروس كورونا يتم إدخال بياناته إلى نظام المستشفيات، وفي رمشة عين تقوم الآلات، بفضل الذكاء الصناعي، بإنجاز خوارزميات معقدة تعطيهم حركات وسكنات المريض خلال الأسبوعين الأخيرين: أين كان، مع من كان… ومباشرة بعد ذلك يتم إرسال رسائل إلى كل الأشخاص الذين قابلهم أو تواجد معهم صدفة في نفس المكان خلال الأربعة عشر يوما الأخيرة، تخبرهم بأن هناك احتمالًا بإصابتهم بفيروس كورونا وعليهم التوجه فورا ليحجروا على أنفسهم لمدة 14 يوما في بيوتهم.
وبالإضافة إلى ذلك عملت الصين عبر تطبيق هاتفي على تصنيف المواطنين إلى ثلاثة أصناف، كل صنف تشير إليه بلون محدد يظهر على شكل دائرة في شاشة هاتفه، اللون الأخضر الذي يعني أن حامله غالبًا لا يحمل الفيروس وبالتالي مسموح له بالتنقل، اللون الأصفر والذي يعني أن حامله مسموح له بالتنقل غير أن حالته الصحية غير معروفة، ثم اللون الأحمر الذي يعني أن حامله يجب أن يحجر على نفسه بسبب تعامله مع شخص مصاب أو لأنه يحمل الفيروس.
وفي كل البنايات السكنية والتجارية والحكومية في شنغهاي هناك جهاز مسح يجب أن يمر منه كل داخل وخارج إليها، وإذا كان تصنيفك أحمر فلن يكون بمستطاعك الخروج من البناية، وحتى لو نجحت في الخروج ستطاردك الشرطة وتعتقلك خلال دقائق.
لذلك فمن يعتقد أن الصين هزمت كورونا فقط بالنصائح في التلفزيون حول أهمية الحجر الإجباري أو ضرورة وضع الكمامات أو التباعد الاجتماعي فهو واهم.
الصين هزمت كورونا بفضل هذه الأشياء نعم، ولكن أساسا بفضل الذكاء الصناعي وخوارزمياته المعقدة، أي بتحكمها في أدق المعلومات الخاصة لمواطنيها وتحركاتهم والقدرة على تحليلها بسرعة واستغلالها لحمايتهم وحماية الصحة العامة بإجبارهم على تطبيق تعليمات الوقاية والسلامة.
هناك من سيقول إن هذا النظام الذي وضعه الحزب الشيوعي الصيني يلغي الفردانية والحرية الشخصية ويجعل الدولة تتلصص على مواطنيها وتحصي أنفاسهم، وبالتالي فليس هذا النظام صالحا للتقليد.
الجواب بسيط، هذا النموذج لن يكون اختياريًا بل سيكون الحل الوحيد أمام الجميع لمواجهة تحدي عصر حروب الفيروسات الذي انطلق قبل شهرين ولا يبدو أنه سينتهي. فإما أن الدول ستتوفر على المعلومات الضرورية والذكاء الصناعي لحماية صحة مواطنيها ضد الفيروسات، وإما أنها ستستمر في مواجهة الفيروسات بالوسائل الحمائية التقليدية والتي أثبتت عدم فعاليتها في أوروبا وأمريكا.
لذلك وضعت في بداية هذا المقال حكمة عميقة للرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيجوفيتش يشرح فيها كيف أن السجين تكون له أمنية واحدة هي الحرية، لكنه بمجرد ما يمرض في السجن يتغير سلم أولوياته، بحيث تصبح الصحة همه الوحيد، وبهذا فإن الصحة تسبق الحرية .
ما نجح فيه هذا الفيروس في الحقيقة هو أنه سيحرم شعوب العالم بأسره من الحرية، أما الصحة فيمكن أن يتفاوض ويتنازل لهم عليها، ولعل هذا انتصاره الأكبر، ولعلها أيضا هزيمتنا الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى