شوف تشوف

الرأي

الصادق النيهوم الليبي

بقلم: خالص جلبي

يتعجب المرء حين كان يسمع أفكارا إنسانية من ضابط انقلابي، كما حدثنا القذافي من الأمم المتحدة يوما عن حق الفيتو ومجلس الرعب ـ عفوا مجلس الأمن ـ أو حين يسمع منه إنسانية الحج، وأن البيت حرام للناس جميعا القانع والمعتر. وهو نصف المجنون الدموي، حتى كانت نهايته القبيحة غير مأسوف عليه.
ولكن من يتتبع أفكار الصادق النيهوم الليبي يعرف المصدر. وأن الضابط الانقلابي يقتبس من مفكر ليبي، هو الصادق النيهوم حذو القذة بالقذة، مع أن الأخير ودع جمهورية الخوف والبطالة وصحراء المختار مبكرا، بعد أن ترك خلفه سلسلة من الكتب جديرة بالقراءة، قبل أن يموت صغيرا في عمر 58 سنة، مثل «محنة ثقافة مزورة» و«إسلام ضد الإسلام» و«قرود .. قرود». لم أعرف سبب موته، وإن فهمت أنه كان يعاقر الخمرة وهذه تفضي إلى تشمع الكبد فالموت المبكر، ما لم يتم استبدال الكبد بكبد رجل نقي لا يشرب الخمر، وعلى أن لا يعود إلى الخمر قط، ولكن هيهات للعادة القبيحة. كانت والدتي وهي بارعة في ضرب الأمثال، تقول: عادة البدن لا يغيرها غير الكفن. أعني الموت ولا تغيير. فالموت عدم، وضرب العدم بالعدم عدم.
وأعتبر أن أسلوب النيهوم في الكتابة مدرسة، يجب أن يمر بها أي كاتب عربي، يريد دخول لعبة اللغة، كما يقول الفيلسوف النمساوي فتجنشتاين. كما حصل مع كتابات (إرنست همينغواي) الأمريكي، الذي ابتدع أسلوب الكتابة القصيرة. قالت لي ابنتي عفراء من كندا إن همينغواي بجمله القصيرة أصبح مدرسة، شاهدها مثلا قصة المريض الإنجليزي.
وفي قناعتي فإن الكاتب العربي حتى اليوم ما زال يميل إلى أسلوب الإنشاء المطول والسجع الفارغ، إلى درجة أن عالم الاجتماع العراقي علي الوردي دعا إلى ثورة فعلية في طريقة الكتابة في العالم العربي، يتخفف فيها العقل العربي من أثقال النحو والصرف. وأنا شخصيا قرأت لسيد قطب المصري، فكنت أحتار في كيفية ضغط أفكاره في جمل قصيرة، وفيها برع مالك بني نبي الجزائري، رحمة الله على الاثنين.
وحقيقة أنا شخصيا كنت أتعجب من أفكار (الكواكبي الحلبي)، في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، وكيف يمكن لحلب أن تنتج في القرن التاسع عشر مفاهيم لم تتعمم في عواصم العالم العربي حتى القرن الحادي والعشرين! حتى عرفت المصدر، فلولا فكر الثورة الفرنسية من فولتير وديدرو وروسو وإتيان دو لابويسيي ومونتانيي، لما أمكن لهذا الحلبي عفوا أن يشم رائحة المعاصرة. ومن يتنقل في حلب يعرف طبيعة الاستحكامات العقلية الموجودة فيها. والرجل لم يعمر طويلا، لربما مات دون الستين من العمر، وكان السبب في هذا تنقل الرجل واحتكاكه بالفكر الثوري الذي كان يتسرب عبر مسامات ضيقة جدا من الجواسيس العصملية، بكل أسف جواسيس عبد الحميد الذين اشتهر بهم في محاولة منه الحفاظ على تماسك دولة في طريقها إلى الانهيار.
وصديقنا الانقلابي القذافي الذي يشبه كاسترو في كوبا وانقلاب ثكنة مونكادو، حسب الرواية الأسطورة التي تكرر على أسماع الناس في الجزيرة المنكوبة بالطاعون العائلي، ما زال يحكم هو وذراريه مثل أتيلا من الهون، وكاتبغا من السلالة الأليخانية، مقلدا أسر التشن والمغول في حكم الصين من القرن الثالث عشر، باسم مستحدث من اللجان الثورية. وحاليا يحكم أخوه راوول، وهو الدماغ الذي كان يسير أجنحة المخابرات في كل زاوية وزقاق. والأسماء لا تعني الحقائق، وفي القرآن أن الأسماء ليس لها رصيد من الواقع والحقائق! «إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان». كما في تعبير النيهوم عن التزييف؛ فيكسب القاموس كلمة ويخسر الواقع حقيقة. وفي الحقيقة اشتهر النيهوم بجمل صاعقة لا يمل الإنسان من تكرارها، مثل هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟ أو جملة يمشي إلى الوراء على رأسه دون أن يشعر بالدوار، أو جملة يستعيض عن القصر بلبس بذلة طويلة، أو جملة إن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة. ونرجع إلى الفكرة التي طرحها العقيد الانقلابي عن الظلم الموجود في العالم، بمصادرة إرادة العالم وتعضيل وتعطيل ولادة العالم بحق النقض «الفيتو»، هي فكرة سليمة يجب أن نعترف له بها إن نقلها عن النيهوم، ولكنه خلط عملا صالحا وآخر سيئا. أو بتعبير القرآن «لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون». فإذا كان مصير العالم أصبح في يد خمس دول لا يبلغ تعداد سكان أربع منها عدد سكان الهند، فإن مصير ليبيا كله مصادر بيد رهط من الآلهة، لا يسبقونهم بالقول وهم بأمرهم يعملون. بقي هكذا حتى جاء الربيع العربي فحصده حطاما غير مأسوف عليه، ويوم القيامة هو من المقبوحين. هو وأبناؤه بأسماء سيوف خشبية شتى. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب الأبيض والأخضر! إن المتتبع لمسرحية الممرضات البلغاريات ولوكربي، ومقهى لابيل في برلين عام 1986م، والطائرة الفرنسية يوتا المنسوفة فوق النيجر عام 1989، وحفلات الدم بليبيا، يتشكك جدا في مصداقية الطرح ويكرر ما قاله القرآن: «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون».
أو هي كما جاء في لعبة معاوية مع علي رضي الله عنه في معركة صفين، عن مطالبته بدم عثمان؛ هي كلمات حق أريد بها باطل، وكذلك هي كلمات العقيد الانقلابي، قبل أن ينقلب عليه الزمن فيعاقبه.
ولذا اعتبر النادي الدولي، كلمات الانقلابي استراحة ترفيهية ظريفة للتنكيت، قام بها انقلابي خطف وقت الأمم كما خطف ليبيا مثل ارتهان طائرة بيد قراصنة؛ فتكلم بدل ثلاث أمم، ولم يأخذوه مأخذ الجد، إلا مجموعة من مجانين العالم العربي، وهم أكثر من رمال الربع الخالي. ونقتبس من فقرات الطبيب الفلسطيني الذي سقط في فخ القذافي في قصة الممرضات قال:
«كنا نعذب عرايا أنا والممرضات في غرفة واحدة، ينظر بعضنا إلى بعض مكشوفي العورات قد ألجمنا الرعب والعرق»، وأضاف: «إنني أخجل أن أقول لكم ما فعلوه بنا، ولكن اثنين من الجلادين سوف أتابعهما قضائيا ولو التحفا السماء وافترشا الغبراء ولآخر يوم في حياتي». وبتعبير النيهوم؛ هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى