شوف تشوف

الرأي

الشطارة التي أتخمتنا

أرنست خوري

كثيرا ما نال حكام إيران ما بعد ثورة الخميني إشادات لا يستحقونها. حتى خصوم النظام، ومن باب هوسهم بالظهور كموضوعيين، كثيرا ما أرفقوا نقدهم الحاد لسياسات مسؤولي طهران بعد 1979، بنعوت لا شيء منها ينفع اليوم لإدراك ما بلغته أحوال طهران في اشتغالها على مبدأ أن الدنيا دار حرب عقائدية لا تنتهي، لا مكان فيها للسياسة وللتنازلات المتبادلة ولمراعاة الحساسيات وموازين القوى. الذكاء السياسي والحيلة وحسن الحبكة، وجميعها مبالغات رميت مجانا على المسؤولين الإيرانيين في العقود الأربعة الأخيرة، اختُصرت بمصطلحات صارت كليشيهات في الأدبيات السياسية والصحافية من نوع «دبلوماسية حياكة السجاد»، للإشارة إلى «الصبر الاستراتيجي» الطويل حتى الوصول إلى الهدف المنشود، و«السير على حافة الهاوية»، أي التصعيد المحسوب دوما بشكل لا يؤدي إلى حرب شاملة يخسر فيها النظام كل شيء. بتأمل الوضع اليوم، يصعب إيجاد ترجمات للتعبير الأول خارج إطار صبر الشعب الإيراني على أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية يواجهها منذ عقود، في بلد نفطي غني كل ثروته مهدرة على الحروب الدونكيشوتية لحكامه. أما الهاوية، فقد سقطت فيها إيران – الثورة باكرا جدا في حربها مع العراق. وعن استعارة جماعة الجيوبوليتيك مصطلح الشطارة السياسية لوصف الحروب الأهلية التي يشعلها رجال المرشد بعيدا عن حدودهم في بلدين عربيين، ورعايتهم خرابا شاملا في أقطار أخرى، وتهجيرا طائفيا وتدميرا لحواضر عربية وتغييرا ديموغرافيا، فإنما وجبت إعادة تعريف السياسة ومفهوم الشطارة للتذكير بأن الذكاء، كما هو معروف، ليس قيمة أخلاقية.
هذه الشطارة المتخيلة لم تأت منذ أربعة عقود إلا بنتائج كارثية، ما عدا على حكام طهران والمستفيدين المباشرين منهم في الداخل والخارج. وقد حققت الشطارة تلك قفزات في الأيام الأخيرة على شكل خسائر سياسية فادحة في كل التعريفات، إلا في معاجم المسؤولين الإيرانيين، هواة تحويل الهزائم الحقيقية إلى انتصارات وهمية. أسابيع مرت والإدارة الأمريكية الجديدة تنصح طهران بالتهدئة وتقدم العروض المغرية لها، الكارثية لضحايا النظام الإيراني في المنطقة، وتعدها بطي صفحة دونالد ترامب. أسابيع ولم يتعب جو بايدن وأنطوني بلينكن من مغازلة طهران وتعيين مسؤولين داخل الإدارة معروفين بمواقف أقل ما يقال عنها إنها تستوعب طهران وتتفهمها وتدللها على شاكلة ما فعلت في اتفاقية عام 2015. مغازلة إيران وصلت إلى اليمن. حُذف الحوثيون من لائحة الإرهاب، وأوقف تزويد السعودية بأسلحة، وراحت أنشودة إحياء الاتفاق النووي تطرب آذان محور الممانعة. لكن بعد الطرب، تعمل الشطارة الإيرانية بمفعول معاكس: توتير مع وكالة الطاقة الذرية. رفض للتفاوض مع أمريكا ومع أوروبا حتى. تصعيد عسكري غير محدود في اليمن وضد السعودية وفي مياه الخليج وقصف للمصالح الأمريكية في العراق. أمام سلوك كهذا، العالم كله توقع، إلا المسؤولين الإيرانيين، ضربات عسكرية أمريكية لميليشيات تأتمر من إيران. غارات أمريكا – بايدن على البوكمال، الأسبوع قبل الماضي، ربطت السواعد الإيرانية وأطلقت العنان للألسن وشطارة المراجل. تبين مجددا أنه لم يكن هناك شيء من الشطارة في الردود الإيرانية التصعيدية ضد إدارة أمريكية تقول إنها غير معنية إلا بالتهدئة. لا شيء من الشطارة أن يتوقع حكام طهران أن يغير جو بايدن في شهر وعشرين يوما ما أرساه دونالد ترامب طيلة أربع سنوات، فما هكذا تعمل السياسة.
لم تكن تنقصنا المعرفة بشطارة حكام إيران. شطارة قمع شعب هو ابن إحدى أعرق حضارات التاريخ، وجعل الإيرانيين من بين أكثر شعوب الكرة الأرضية سعيا إلى الهجرة. شطارة تخريب طائفي ودمار معمم وحروب وتصدير نموذج للحياة لا ترغب فيه شعوب المنطقة ولا يشبهها. شطارة نعرفها عن النظام الإيراني في حربه ضد العراق بأسلحة من إسرائيل (إيران – كونترا) التي لم تقاتلها إيران يوما على كل حال. شطارة تحويل كل أرض وطأتها أقدام محاربي «الثورة» أو مندوبيها إلى دار حرب تليق بالقرون الوسطى.
الشطارة أتخمتنا، يا ليتنا نتعرف على الغباء قليلا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى