الشرق المؤبّد في متاهته
سعيد الباز
أجل، الشرق المؤبّد في متاهته يستغرقه السبات اللذيذ، وتكاد ألّا توقظه النكبات.
الشرق العربي أعني، جاءه الصليبيون شاهرين السيوف والصلبان ولمّا صالوا ثمّ جالوا عادوا بسيوفهم وصلبانهم وبفكرة غامضة عن عودة محتملة إلى الشرق الساحر.
جاء إليه الفتى الكورسيكي نابليون بونبارت وعلى رأسه، التي تعجّ بالأحلام العريضة، عمامة مشرقية، وعلى لسانه تنضح الكثير من الأكاذيب. لم يصمد طويلا، كان العدو الإنجليزي ينغّص عليه مغامرته الجميلة في شرقه الساحر الذي كثيرا ما كان يذكره بسلفه الإسكندر الأكبر، خاصة عندما كان يدسّ يده اليمنى بين زرّي معطفه الطويل في جولاته المسائية على جنبات النيل.
ضاق نابليون بشرقه فرمى قبعته من خلف أسوار مدينة عكّا المحاصرة، وقرر العودة إلى أوروبا حيث الحلم الإمبراطوري والمجد الذي تهفو إليه نفسه منذ زمن بعيد، وهو يراه الآن، من هذا الشرق المستعصي عليه، يكاد أن يتحقق أمام عينيه دون حاجة إلى عرّاف أو نبوءة منجّم قديم.
كان نابليون يغادر الشرق تاركا مطبعته الشهيرة وصدى مغامرته المصرية، وحاملا معه خرائطه وأبحاث علمائه في وادي النيل بين الأهرامات والمعابد الفرعونية… ولم يكن يدري أنّه قد فتح الباب أمام الشرق لسباق المسافات الطويلة بين قوى استعمارية قادمة في المستقبل القريب أكثر شراسة ودهاء.
عشية الحرب العالمية الأولى كان هذا الشرق جثة هامدة بين يدي الدولة العثمانية المشرفة على السقوط النهائي والخروج من البوابة الخلفية للتاريخ. كان الشرق غنيمة مثيرة لشهية الدولتين المنتصرتين فرنسا وبريطانيا، ومصيره ستحدده هذه المرّة المكاتب الباردة في وزارات الخارجية في العاصمتين باريس ولندن والوزيران الفرنسي فرانسوا بيكو والبريطاني مارك سايكس، والقرارات النهائية لرئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمونصو والبريطاني لويد جورج.
كانت الحكمة آنئذ تقتضي أن تجرى المفاوضات سرّا وتجنب الصراع على الغنيمة ما أمكن ذلك، مخافة الوصول إلى نقطة اللاعودة والسقوط في مغبة النزاع المؤدي إلى الحرب التي مازالت ذيولها تخيّم على الأذهان والنفوس، ولم يتم الإعلان عن نهايتها بعد. كان كليمونصو مستعجلا الوصول إلى اتفاق سريع ومستعدا لتقديم كل التنازلات الممكنة، مركزا نظره على مستعمراته في شمال إفريقيا أكثر من الشرق الأوسط، أمّا رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج فكان يتلكؤ في الإعلان عن رغباته النهائية، مستنفدا صبر كليمونصو للحصول على أكبر نصيب من الغنيمة، ما دفع هذا الأخير إلى توجيه السؤال مباشرة: «ماذا تريد بريطانيا العظمى؟»، وكأيّ إنجليزي يحترم نفسه، أجاب ببرود: «بريطانيا تريد القدس».
كانت القدس في المبدأ، وبمباركة كل الدول المتفاوضة، أن تكون دولية وخارج التقسيم، ورغم ذلك ردّ كليمونصو: «هي لك، هل من طلبات أخرى؟». في تلك اللحظة، كانت بداية أطول اتفاقية في المنطقة المسماة «سايكس بيكو»، واستفراد بريطانيا بالشرق العربي الذي أهدته بكل أريحية هديتين مسمومتين، وعد بلفور المفضي إلى نشأة إسرائيل وأكبر مأساة إنسانية، والجامعة العربية التي أوكلت إليها مهمة الصراخ والأنين نيابة عن المريض المصاب بدلا من معالجته.
بانهيار اتفاقية «سايكس بيكو» والنظام السياسي المترتب عنها، انهارت العواصم وأنظمتها السياسية المرتبطة به ودخل الشرق العربي برمته في فوضى غير خلاقة، يرتب وضعه من جديد غنيمة مستقبلية سمّاها البعض الشرق الأوسط الجديد، وحاليا صفقة القرن. الجديد هذه المرة أنّها قد تهيأت فصولها وراء المحيط الأطلسي وفي دهاليز الخارجية في واشنطن، ويبدو أنّ هذا الشرق المؤبّد في متاهته، ما زال يواصل استغراقه في السبات وتكاد ألّا توقظه النكبات. ولم يتأت له أن يصغي بإمعان إلى الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: «بعد العيش والحلم هناك ما هو أهم: اليقظة».