شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةشوف تشوف

الشجرة التي تخفي الغابة 2

في زمن وحدة المدن، وسخاء التمويلات، وديناميكية الجماعات الترابية في العشرية الأولى من القرن الحالي، نجح مالك شركة الأشغال الكبرى، في تقديم “باك_ خدمات”، يبتدئ بهندسة وتركيب مشاريع تهيئة، والبحث عن تمويلات لهذه المشاريع لدى صندوق التجهيز الجماعي، وضمان التصديق على هذه المشاريع بوزارة الداخلية، وإقناع الولاة والعمال بالموافقة على هذه المشاريع التي تترجم عبر مقررات جماعية، تشترط لاعتمادها موافقة ممثلي سلطة الوصاية.
عبر هذه الصيغة نجح رؤساء جماعات في تعبئة موارد مالية استثنائية مكنتهم من إطلاق مشاريع كبرى سمحت بهامش ربح كبير، حصلت عليه دائرة ضيقة من الشركات، كما انتهت نسبة من هذه التمويلات في جيوب مسؤولين جماعيين، وكبار موظفي الجماعات، كرؤساء أقسام الميزانية والصفقات والأشغال، وتوسعت الدائرة لتشمل بعض المستشارين النافذين لشراء صمتهم.
هذه الوصفة مكنت كل رئيس جماعة باحث عن الإثراء السريع من عقد شراكة مصلحية، ما يفسر بشكل واضح اليوم سر تشابه برامج التأهيل الحضري لبعض المدن وضعف جودتها، نتيجة احتكار صفقات تهيئة الطرق، الترصيف والإنارة العمومية، والتشوير، والمساحات الخضراء. هذا الأخطبوط نجح بكل وسائل الإغراء في الإيقاع برؤساء الجماعات، عبر هدايا ثمينة عبارة عن شقق بمدن سياحية، وضيعات كما هو الحال لعمدة مدينة كبرى اقتنى له مالك الشركة المثير للجدل ضيعة فلاحية فخمة ضواحي سلا، يروج أن ثمنها تجاوز المليار و300 مليون سنتيم، مقابل تمكينه من صفقات بالجملة، وسفريات إلى الخارج، وإقامات بالفنادق المصنفة وهدايا ثمينة لعائلات كبار المنتخبين.
في قضية مبديع الذي أحيل على قاضي التحقيق في حالة اعتقال، بعد سنوات من التحقيقات المعمقة التي أجرتها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، بناء على خلاصات تقارير التفتيش والافتحاص التي خضعت لها بلدية الفقيه بنصالح التي ترأسها منذ 1997 إلى حين اعتقاله، رصدت تقارير التفتيش اختلالات خطيرة تم تكييفها كجرائم تتعلق باختلاس وتبديد أموال عامة، المساهمة في التزوير في محرر رسمي، الارتشاء، استغلال النفوذ.
في قضية اختلاس وتبديد أموال عمومية، فإن هذه التهمة تستند إلى طبيعة تنفيذ وإنجاز المشاريع التي أسندت إلى شركات بعينها، ووفق اتفاقات تحت الطاولة، انعكست على جودة الأشغال، وعدم التقيد بمعايير الجودة، وتضخيم كلفة الأشغال بما يسمح للشركات المنجزة بتوفير الأغلفة المالية الموجهة لكل الأطراف المتواطئة على الاختلالات التي صاحبت إنجاز عدد من المشاريع، خلال مدة ربع قرن أي منذ سنة 1997.
مبديع القيادي الحركي، وكأي مسؤول جماعي، سقط في فخ التعامل مع شركات محترفة في التهام الصفقات العمومية، وتحقيق نسبة ربح مرتفعة على حساب الصالح العام. لا شيء يوحي أن مبديع كان ضحية حسن النية، أو سوء التقدير، وضعف الخبرة، بعد تواتر عمليات من النوع نفسه.
ومن غرائب الصدف، أو التواطؤ، أن كلفة الصفقات المنجزة وهوية الشركات المنجزة، هي التي تعاقدت مع عمدة فاس وأنجزت مشاريع بملايير السنتيمات، وهي ذات الشركة التي أنجزت ستة شوارع بسلا بكلفة 45 مليار سنتيم، وهي ذات الشركة التي باعت أعمدة الإنارة العمومية لجماعات بمناطق الشمال بـ65 ألف درهم للعمود الواحد، وهي ذات الشركة التي تولت التفاوض نيابة عن الجماعات المحلية مع شركات الإنارة العمومية، وهي الشركة ذاتها التي أدت مصاريف سفر مسؤولين جماعيين إلى الخارج للقاء مسؤولي شركات صناعة المصابيح الاقتصادية، قبل أن تغرق أعمدة الإنارة بمصابيح صينية رديئة الصنع، تؤكدها الإضاءة الخافتة الشبيهة بضوء الشموع بعدد من المدن التي نفذت أشغال تهيئة الطرقات، أو مشاريع التأهيل الحضري.
مبديع وكغيره من رؤساء الجماعات سلم نفسه لهذه الشركات، غير مقدر لعواقب التفريط في التزام المسؤول الجماعي بحماية وتحصين المال العام من السرقة والاختلاس والتبديد.
لذلك فحالة مبديع ليست فريدة بل هي حالة شبه عامة قابلة للإسقاط على غالبية رؤساء الجماعات الترابية الذين يضعون مصالحهم ونزواتهم في المقام الأول، وقليل منهم من يلتفت إلى خدمة الصالح العام.
إذ يكفي تتبع مسار صفقات هذه الشركات لمعرفة مواطن الفساد في الجماعات التي عششت فيها والرؤساء الذين دخلوا هذه الجماعات حفاة عراة فتحولوا في زمن قياسي وفي غفلة من المصالح الرقابية لمليارديرات عقاريين وفلاحين كبار ورجال أعمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى