نظّم بيت الشعر في المغرب والفضاء الثّقافي لمقهى النهضة بالرباط لقاءً ثقافيا وشعريّا مع الشّاعر والصحفي رشيد نيني، يوم الأربعاء 2 أكتوبر الجاري بفضاء المقهى الثقافي لسينما النهضة بالرباط. اللقاء، الذي قدّمه الشاعر مراد القادري، يأتي احتفاءً بتجربة الشاعر والكاتب في مجال الإبداع والإعلام، وكذا لتقديم وتوقيع ديوانه «اعترافات تحت التعذيب» الصّادر مؤخرا عن منشورات بيت الشعر في المغرب.
تجدر الإشارة إلى أن الشاعر رشيد نيني من مواليد مدينة ابن سليمان، وحصل على شهادة الإجازة في اللغة العربية وآدابها ودبلوم الدراسات العليا المعمقة، في مادة الشعر الحديث، أيْ في الجنس الأدبي الذي برز فيه نيني مُنذ مطلع التسعينيّات من القرن المنصرم، عندما وجدت قصائدُه طريقَها نحو النّشر بالصُّحف والمجلات الثقافية والأدبية داخل المغرب وخارجَه، وهو ما أنبأ عن ميلاد صوتٍ شعري مُميّز ومُختلف لغةً ورؤية، مع انتصار واضح لقصيدة النثر التي أخلص لها جيله من شعراء التسعينيات بالمغرب.
تكرّس اسم رشيد نيني في مجال الصّحافة، ككاتب عمود أسبوعي بجريدة «العلم» التي بدأ بها متعاونا منذ سنة 1993 إلى سنة 1997، قبل أن يلتحق بالقناة الثانية سنة 2001، ليُغادرها ويؤسّس سنة 2006 جريدة «المساء» ويشغلَ منصب مدير نشْرها من سنة 2006 إلى سنة 2011. وفي سنة 2012، أسس رشيد نيني جريدة «الأخبار» التي يعملُ، إلى اليوم، مديرا لها. كما أطلق سنة 2017 من مدريد القناة الفضائية «تيلي ماروك».
على الرغم من انتصاره لمهنة المتاعب، التي برز في حومتها، واختُبر بسببها في حُرّيته، ظلّ رشيد نيني وفيًّا لروح الشعر، قريبا من أفُقه في كتابته الصّحفية وخاصّة في عموده اليومي «شوفْ تشوفْ».
أصدر الشّاعر رشيد نيني كتابه «يوميات مُهاجر سري»، الذي وثّق لتجربة الهِجرة التي خاضها بالدّيار الإسبانية ما بين سنتي 1997 و2000. وهو الكِتاب الذي حظيَ بشُهرة واسعة، وتمّ طبعُه عِدة مرّات، كما تُرجم إلى اللغة الإسبانية والإيطالية والألمانية.
«اعترافات تحت التعذيب» هو الإصدار الشّعري الثاني لرشيد نيني بعد ديوانه «قصائد فاشلة في الحُبّ» الصادر سنة 1999. وهو عبارة عن قصيدة واحدة بنفسٍ ملحمي، يرصدُ فيها الشّاعر طبقاتِ الخيبة والخُسران التي تترافق وتجربة العِشق.
كلمة الشاعر مراد القادري في حفل تقديم
ديوان الشاعر رشيد نيني «اعترافات تحت التعذيب»
****
تكتسي استضافةُ الشّاعر والصحافي رشيد نيني في بيت الشعر في المغرب أهميّة خاصة، يُمكنُ لي أنْ أجملها في ثلاث نقط:
- أولا: إنّ هذه الاستضافة تأتي بمناسبة انطلاقة السنة الثقافية الجديدة، وهي لحظة نتطلّع أن يتمّ توطينها ضمن النسيج الثقافي الوطني، بحيث تصير موعدا معروفا وثابتا تشارك في صُنع ديناميته مختلف الأطراف المعنية بالشأن الثقافي في بلدنا.
- ثانيا: لكون الشاعر والصحافي رشيد نيني يُعتبر أحد أبرز أصوات الشعر المغربي منذ مطلع التسعينيّات من القرن المنصرم، علاوة على كونه شخصية عامّة، ووجها مألوفا لدى عموم المغاربة، صغيرهم وكبيرهم، يحظى عمودُه الصحفي «شوف تشوف» بمتابعة حاشدة من طرف عيّنات متباينة من القراء: شباب وشيوخ، مسؤولون حكوميون، أساتذة، جامعيون، طلبة، وعاطلون….
لكن رشيد نيني حالة شعرية وأدبية قبل أن يكون حالة صحفية وإعلامية.
لم يسقط في أحد الصباحات، ولم يظهر في أحد المساءات هكذا فجأة. يعني أنه لم «يقطر من السقف»، بل هو ابنٌ أصيل للحركة الشعرية والأدبية المغربية، وكلّ الذين جايلوه يعرفون جيّدا كيف نحَت اسمه وحفره على الصّخر بأظافر لا تلين. ترقّى درجات النشر: من صفحة إبداعات الشباب بالجرائد الوطنية، مرورا بالملاحق الثقافية والمجلات المغربية والعربية، ثم الحضور الأنيق في المهرجانات الشعرية، وصولا إلى طبع الديوان الأول سنة 1999.
طاح وناض، أكثر من مرة… لفت رشيد الانتباه إليه، منذ أولى مقالاته الصحفية بجريدة «العلم» تحت عمود «بنات أفكار».
مثّل رشيد نيني نموذجا مختلفا داخل جيلنا الشعري. فقد كان حريصا على استثمار الوقت، وذلك على خلاف بعضنا، حيث الفوضى كانت بالنسبة لنا هي النظام، وحيث العبث بالوقت وهدرُه كان شعارنا وعقيدتنا الراسخة.
اختار رشيد نيني في لحظة ما الغربة في إسبانيا ليزاول عدة مهن ويواصل الحياة بعيدا هناك، إلى أن عاد محمّلا بكتابه الجميل «مذكرات مهاجر سري» الذي صدر في أكثر من طبعة، وعبر إلى عدة لغات.
وبالجملة، فإن رشيد نيني الذي لم يكن ينتظر الصباح ليشرق، ولا المساء لينير، هو مثالٌ ملهمٌ تتعلم منه الأجيال الشابة الجديدة معنى الإرادة وشقّ المسار في عالم الكتابة وفي دروب الحياة.
لم يأت رشيد إلى عالم الشهرة من الفراغ، بل طلع من عجينٍ وكيمياء عجيبة، امتُزجت فيه تجارب مختلفة ومتباينة: طفولة في حقول ابن سليمان، محبّة الشعر والشّغف بالقراءة، والاشتباك مع تجربة الشعراء الصعاليك، انشغاله بقصيدة النثر، العمل الصحفي متعاونا بجريدة «العلم»، ثم مع اليوميتين اللندنيتين «القدس العربي» و«الحياة»، مرحلة الهجرة وامتهان عدد من الحرف بإسبانيا، نادلا ومزارعا، وصولا إلى «صداع الراس» الذي جلبته مهنة المتاعب والتي بسبهها اختُبر في حريته، وقضى من عمره سنة في الحبس الانفرادي.
ثالثا: من حسنات هذه الأمسية الدافئة أنها تعيد رشيد نيني الشاعر إلينا.
رشيد نيني الذي طوّف في عوالم الصحافة ونسي عشقه الأول: الشعر. كان دورنا، في بيت الشعر في المغرب، هو مطاردته والتربّص به صباح كل يوم جديد جنب الكتبي «الرّوبيُو» بشارع محمد الخامس بالرباط من أجل أن نُقنعه بالعودة إلى الشّعر، هذا الجنس الهشّ الذي اختاره نيني، من جهة، ليقدّم من خلاله وجهة نظره وموقفه من الكون والحياة، وليقترف به غاراته الأولى، عندما ساهم في مستهل التسعينيات، بمعيّة نخبة من الشعراء الأصدقاء: سعد سرحان، ياسين عدنان، هشام فهمي، وطه عدنان… في تأسيس جماعة شعرية أطلقوا عليها اسم «الغارة الشعرية».
إن القبض على رشيد نيني أمر يستحق العناء والتعب والتربص. ولأنه عاشق الغارات، كان لِزاما علينا أن نستعمل الغارة للإمساك به.
هكذا بدأنا الحديث معه إلى أن حصلنا على مسودّة الديوان الذي اختار له عنوان «اعترافات تحت التعذيب».
اليوم نستعيد رشيد نيني الشاعر.
لكن هل حقّا رشيد نيني كان بعيدًا عن الشّعر؟
من المعلوم أن الشّعر لا يتجسّد فقط في كتابة القصائد، يقول قاسم حداد «لم تعد القصيدة هي العنوان الوحيد أو النهائي للشعر. إنها أحد العناوين التي لا تُحصى للشعر. فالشعر، يوما بعد يوم، يتحرّر من تخُومه التقليدية، وهو يخرجُ عن القصيدة إلى هواء الحياة، ممثلا في أشياء الإنسان والعالم. أصبح الشّعر شرط الجمال، في كل أنواع التعبير الفني، كما شتى أشكال الحياة.» الواقع أن الشّاعر رشيد وهو غائب عن الشعر من حيث الإصدار والنشر الورقي، كان ينثر الشعر في هواء الحياة، ويناضل من مواقع أخرى لفائدة الإنسان. وذلك هو ما أخّر في رأيي صدُور دواوين شعرية له بعد ديوانه الأول «قصائد فاشلة في الحب».
لا أعرف كلما خطر ببالي رشيد نيني إلا واستحضرتُ معه شعراءنا العرب الفرسان، الذين وصمَهم مؤرخو الأدب بـ«الشعراء الصعاليك» كعروة بن الورد، الحطيئة والشنفرى، وتأبط شرا… الذين كانوا يقومون بغارات على الأغنياء من أجل الانتصار للفقراء والمهمشين والمحرومين.
باكرا، تأبّط رشيد نيني شعره، وانخرط في الغارة الشعرية، التي كانت تطلق خراطيش هي عبارة عن بطائق شعرية يتمّ الاحتفاء فيها بالشعر في لحظة انتصاره للحلم والدهشة؛ كما أنه باكرا، استثمر سجلاته واستعاراته، كما وظّف روحَ الشعر وأخيلته وتشبيهاته لتكون في خدمة قضايا الناس والتعريف بحاجتهم إلى العدل والحرية والكرامة. وهو بذلك كان وفيا لتراث أجداده من الشعراء الصعاليك، ساعيا إلى تهيئة الفرصة للفقراء المهضومة حقوقهم ليشاركوا سائر أفراد مجتمعهم في حياة اجتماعية كريمة عن طريق إحداث نوع من المساواة.
لذلك، فلا غرابة أن يعترف رشيد نيني في عمود سابق له يقول: «أحب الشعراء إلى قلبي كانوا هم الشعراء الصعاليك. هم أصدقائي الذين أدمنت قراءة قصائدهم يوميا، وبين هؤلاء الشعراء الصعاليك، فإن عروة ابن الورد يبقى صعلوكي المفضل. وقد تمنيت دائما في مراهقتي البعيدة أن أكون مثله. فقد كنت مفتونا بشعره وشجاعته الحربية وسرقاته الشهيرة التي ينفذها في قوافل الأثرياء لكي يوزعها في ما بعد على فقراء قبيلته. منذ تلك المراهقة، وأنا أقرأ سيرة الشعراء الصعاليك، والشعراء الفرسان، والشعراء الأمراء الذين كانت رائحة طيبهم تسبقهم إلى المجالس، قررت أن أكون مثلهم. يعني أن أكون لسان حال الشعب كما كانوا هم لسان حال قبائلهم. لقد كنت مقتنعا دائما بأن هؤلاء الشعراء الصعاليك كانوا هم صوت المعارضة الحقيقية في قبائلهم».
انغماس رشيد نيني في أدوار الفروسية، على غرار أجداده الشعراء الصعاليك الذين كانوا يمارسون حياتهم شعرا هو ما أبعده عن الشعر «كقصيدة» فيما جعله قريبًا من الشعر «كسلوك حياة».
لم يكن الوقت مُسعفا له ليُعليَ من أرصدة كتبه الشعرية، كما هو حال زملائه الذين انطلق معهم في فترة واحدة، أصحابه في الغارة الشعرية ياسين عدنان، هشام فهمي، سعد سرحان، طه عدنان… وآخرون من خارج جماعة الغارة الشعرية: عزيز أزغاي، عبد الدين حمروش، حسن الوزاني، محمود عبد الغني، جمال بودومة، جمال الموساوي، جلال الحكماوي، إدريس علوش…
لذلك سنرى كيف أن رصيده من دواوين الشّعر بلغ ديوانين فقط هما: «قصائد فاشلة في الحب» (1999)، وديوانه الجديد «اعترافات تحت التعذيب»، فيما إذا أردنا أن نحسب عدد الأعمدة الصحفية تلك التي كتبها على مرّ مساره الصحفي سنجد عشرات الآلاف.
انصرف نيني إلى مجال آخر، يُغني فيه شِعريته، وأعني بذلك العمود الصحفي على ديدن عدد من الصحافيين المرموقين في هذا المجال، وخاصّة المرحوم عبد الجبار السحيمي، الذي كان أوّل من شجّعه على كتابة بنات أفكاره، وهي التّسمية التي أطلقها على عموده الذي كان بدأ به الكتابة في جريدة «العلم».
أذكر أن رشيد نيني كان يصل إلى مدينة الرباط من أجل أن يضع مقاله الأسبوعي بمقر «العلم» الذي يوجد بشارع علال بن عبد الله، فكان يعرج علينا بمقهى «المثلث الأحمر»، كان يومها البشير القمري رحمه الله سيد المكان، إلى جانب ثلة من طلبة المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي أيام كان مقرّه بجوار مسرح محمد الخامس، منهم جمال بودومة، عبد المجيد الهواس، عبد الصمد مفتاح الخير، لطيفة أحرار، نعيمة زيطان، وعدد آخر من المشتغلين بالفن والثقافة والعمل المدني: نور الدين الزاهي، رشيد الوالي، عبد الكبير البحتوري، الشاعر العماني عبد الله الريامي، عبد الكبير الركاكنة، الراحل عباس إبراهيم، محمد بسطاوي رحمه الله، وتوأمه محمد خييّ، وآخرون…
في تلك الفترة، شارك رشيد نيني معنا في جل تظاهرات مهرجان الحساسية الشعرية الجديدة الذي أطلقناه داخل فرع جمعية الشعلة بمدينة سلا، والذي انعقدت منه 6 دورات. كنا جمهرة من الشعراء الشباب يحذُونا الحماس، ويصلُ بنا الاقتناع أننا في قطيعةٍ مع من سبقنا من شعراء المغرب، وأنّ لغتنا ورؤيتنا للعالم وللوجود مختلفةٌ عنهم. لكن بعد ستّ دورات من هذا المهرجان، اكتشفنا وهْمَ ما كنا فيه، وأدركنا أنّ شجرة أنسابنا تضربُ عميقا في تُربة الشعر المغربي، وأنه ما كان لنا أنْ نكون لولا الآباء الرّمزيّين للشعر المغربي والعربي الذين عبّدوا لنا الطريق وفرشوه باستعاراتهم وصُورهم وأخيلتهم، بل وبأسئلتهم الثقافية وقلقهم الفكري ومعاناتهم الحياتية ذات الصلة بواقع الكتابة والنشر وحرية التعبير.
كان رشيد نيني يحلم مثلنا…
وربما كان يحلم بأشياء أخرى….
فأبناء المدن الصغيرة، تكون أحلامهم كبيرة.
لذلك، ولربما بسبب تحجّر هذه الأحلام وتحوّلها إلى كوابيس مخيفة.
سيرحل رشيد نيني ويحمل صفة مهاجر سري.
في استرجاع لهذه اللحظات العصيبة، يكتب رشيد نيني بكثير من الأسى:
«عندما فقدت الأمل كليا في أيّ مستقبل لي في البلد اتخذت قراري النهائي بالمغادرة. فقد شعرت دائما أنني أعيش نصف عيشة، أسكن في بيت نصف مكتمل، وأعيش على أنصاف الحلول، وكلما بدأت شيئا تركته في منتصف الطريق. تيقنت أن لا شيء عاد يشدني إلى هذه الأمكنة التي ولدت وعشت فيها طفولتي ومراهقتي وبداية شبابي، فصار كل شيء عندي مملا وتافها ومؤقتا. أهملت حلاقة ذقني وتخليت عن محاولاتي الفاشلة في إيقاف تساقط شعري، ولم أعد أجمع فراشي وصرت أنام بكامل ثيابي كأي مبحوث عنه، مؤجلا كل شيء له علاقة بالنظام إلى زمن ومكان لاحقين. فقد فشلت في الحصول على عمل حكومي رغم عام من الصراخ أمام مقر العمالة، وفشلت في العثور على عمل قار في الصحافة، كما حلمت دائما عوض الاشتغال كمتعاون بالقطعة».
على خلاف عدد من زملائه ومجايليه من ممارسي ومدراء الصحف المستقلة، تطبع رشيد نيني بالمجال الذي أتى منه (مجال الأدب)، ذلك أنّ انخراطه في مدارات الكتابة الشعرية أسْعفه في أن يتناول كل المواضيع التي أثارها عموده «شوف تشوف» بلمسةٍ أدبية وبلغة شعرية. فالشاعر كما هو معلوم خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، وحاصل على ديبلوم الدراسات العليا المعمقة، تخصّص الشعر الحديث، من جامعة محمد الخامس بالرباط، لذلك جاءت كتاباته الصحفية مُفعمة بماء الشعر ونضارته ورونقه.
من أهم خصائص كتابته نبرتها الأدبية، روح السخرية، والاعتماد على المفارقات التي يذهب بها إلى أقصاها، مع الخلط بين الدارجة والفصحى ما يتيح لهذه الكتابة سرعة التلقي والفهم من طرف جمهور القراء.
حياة رشيد نيني قصيدة طويلة انطلقت من مدينة ابن سليمان لتتواصل من تلك القرية الصغيرة القابعة في الهامش لتصل به إلى ما وصل إليه. القرية التي يعود إليها بين الفينة والأخرى وفق كتابةٍ نوستالجية، مكّنته أن يكون سيّد النوستالجيا بامتياز وخاصة عندما يتعلق الأمر بمرحلة الطفولة وسنوات المراهقة وشقاوتهما.
لذلك لا غرابة أن يختار رشيد نيني لبرنامجه في القناة الثانية (2M) عنوان «نوستالجيا». يكتب مثلا في أحد أعمدته مستعيدا ذكريات الشقاوة والشغب الطفولي بمدينة ابن سليمان:
«الحقيقة أنني لا أشعر بنفسي إلا وأنا غارق في هذا الحنين الجارف الذي يطوقني بمجرد ما يذكرني أحدهم بمسقط رأسي. وشخصيا لا يستطيع طعم أغلى عصير فواكه في العالم أن ينسيني طعم ذلك العصير الذي كنا نستخرجه من البرتقال المر الذي يتدلى من أشجار البلدية في الشارع، والذي كنا ندس فيه جعبة «الستيلو» الفارغة ونضع في أفواهنا قطعة من السكر ونبدأ في امتصاص عصيره المر. كما لن تستطيع أشهى الأطباق أن تنسيني مذاق طيور السمان المشوية فوق نار هادئة في «ضاية عبو» التي سرقوها منا وشيدوا فوقها ذلك الغولف الذي يبيعون اليوم فيلاته بمئات الملايين وشقق عماراته بمئات الملايين. لن أنسى حقول فول «خالي عبد الكبير»، الرجل الطيب الذي كنا نغافله ونملأ بحبات فوله جيوبنا عندما يداهمنا الجوع في الحقول التي تحيط بالمدينة كحزام أخضر موشى بالزنابق والنباتات الوحشية. كما لن أنسى حقول «جلبانة» التي كنا أخطر عليها من طيور «الجوش». ورغم تذوقي لشتى الأكلات والأطعمة في أكثر من قارة، إلا أنني لازلت أحن إلى وضع ساق من سيقان نبات «الحميضة» بين أسناني، والاستمتاع بحموضتها الرائعة».
وبانتقالنا إلى الديوان الصادر عن منشورات بيت الشعر في المغرب، يستوقفنا عنوانه «اعترافات تحت التعذيب» والذي يتماهى مع عناوين أدب السّجون والمعتقلات، فنعتقد للوهلة الأولى أننا سنجد شعرنةً، أو سيرة شعرية للتجربة القاسية التي مرّ بها الشاعر خلال السنة التي قضاها بالسجن.
غير أنّ القارئ ما أن يطمئن إلى حَدْسه، ويثق في تخميناته، واثقا بمعرفته لهويّة السّجين والسجان، حتى يفاجأ بهويّات أخرى، وتتضحَ له الملامح الحقيقية للمعتقل والسجّان. فالمعتقَل ليس سوى المحبّ العاشق، فيما السجان ليس سوى المحبوب. وهو ما يجعل الاعترافات التي بين يدينا تصير اعترافاتٍ من نوع خاص، لا علاقة لها بالاعترافات التي تتمّ في دهاليز المحاكم وأمام الضابطة القضائية.
هكذا نكون أمام الحيلة الأولى التي يدبّرها لنا رشيد نيني، وهو ما يخلق نوعا من الإثارة والإدهاش، ويفضح رغبة الشاعر في المكر بقارئه وخذلان أفق انتظاره، حيث الأجواء الدلالية التي يقصدها الشاعر مخالفة للنوايا التي اطمأن إليها القارئ المكتفِ بدلالة العنوان.
ومع ذلك، فإن القارئ الحصيف ما إن ينتهي من قراءة «اعترافات تحت التعذيب»، حتى يكتشفَ التحام العنوانِ مع بنيّة المتن، إذ نجد العنوان ممتدًّا دلاليا في المقاطع الإحدى والأربعين التي تشكل مجموع النصّ وتجعلها ملتحمة في منظومة واحدة. هكذا، لا يعود مقبولا قراءة العنوان بمعزل عن النص، ولا عن سياقِه الشعري.
يعني ذلك، أن الضمير المتكلم الذي يقود هذه القصيدة / الديوان يوجد في وضعية بوح وكشف لمواجعه المختلفة وحالاته المتباينة الناتجة عن آفة العشق التي يتجرّع مرارتها.
في هذا الديوان، يوجّه الأنا المتكلم بوصلة حواره إلى ثلاث جهات: الحبّ/ المحبوبة / الذات المحبّة.
يخاطب الحب، يقول:
«سمعت أنك تدمي قلوب
من يفتحون لك صدورهم.
سمعت أنك
تطرد النوم
عن عيون من يمنحونك ثقتهم
سمعت أن الرجال
يخوضون الحروب بسببك
ويسفكون الدم باسمك،
ويحرقون الأرض لأجلك…
لا يكتفي الشاعر في هذه الاعترافات بمجابهة الحبّ ومُواجهته والنظر شزرا في عينيه، والإفصاح عن الألم الذي تسبّب فيه للذات المتكلمة، بل يحرص على صوغ تعريفات لهذا الغول تمتدّ على طول المقاطع 14 -16- 22 -23- 24-36 و41.
في هذه الاعترافات، لا يقرّ الشاعر أو الذات المتكلمة إلا بالحبّ الأول، وذلك على غرار الشاعر أبي تمام:
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى
ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ».
أما الشاعر فيعترف في محاضر الديوان:
الحبّ الأول
هو إكزيما القلب
تعالجه
وتعتقد أنك نسيته
وشفيت منه
فيظهر فجأة بعد سنوات
في المكان ذاته من القلب
يفترسك بشراسة
أقوى من السابق.
في مستوى ثان، يخاطب الشاعر المحبوبة، التي يمنحها الأولوية، فيتصدّر الحوار معها الديوان، ويمتد من المقطع الأول إلى المقطع 13، كما يتواصل في مفاصل ومقاطع أخرى من هذه الاعترافات:
سأقلع عنكِ
كما يقلع مدمن
عن عادة سيئة.
سأتعافى منك
كعاشق يروض ذاكرته
على النسيان
كمريض يتعاطى مضادات حيوية
ضد الحنين.
سآخذ بقية العمر
فترة نقاهة بعيدا عنك
حيث لن تصلني سهامك.
سأوفر لنفسي المناعة اللازمة
لكيلا يصاب قلبي ثانية
بعدوى وباء الحب الموسمي.
وإذا كانت المخاطبات التي يجريها الشّاعر مع الأنثى تتراوحُ بين الأمل واليأس، وتلك التي يجريها مع الحبّ تتّصف بالطاعة والإدانة، فإن المخاطبات التي يجريها مع الذات، وهي مونولوغات داخلية، تتّسم بالحكمة والحزن، يقول:
في شريط حياتك المطول
لك أن ترش قليلا من الألوان
في الصور المظلمة
لك أن تدس الفرح في الزوايا المعتمة
لك أن تطلق الموسيقى
لتراقص أشباحك العبوسين.
تلكم بعض الأجواء التي يتحرّك فيها ديوان رشيد نيني، لا أريد أن أمسك بجميع أجوائه وأبعاده، تاركا للقارئ الحق في بناء تلقٍّ يستجيبُ لذوقه ويحقق، من خلال قراءته، حريته، التي تظل أسمى ما ناضل من أجله رشيد نيني في الشعر أولا وفي الحياة ثانيا.