أحسن ما قام به الذين شاركوا في استقلال المغرب عن فرنسا وأفنوا أعمارهم في مقاومة الحماية، أنهم ماتوا قبل أن يقرؤوا خبر مقاضاة أولياء أمور مغاربة لمؤسسة تعليمية فرنسية في المغرب، لأنها أضافت ساعتين على الحصص المقررة لتدريس اللغة العربية لأبنائهم، المغاربة أيضا.
لم نعد أمام مخطط ممنهج لإقصاء اللغة العربية من طرف الأجانب، بل صرنا نرى مغاربة أبا عن جد، يرفضون أن يستفيد أبناؤهم من حصص في اللغة العربية.
ورغم أن اللغة الفرنسية صارت من اللغات المُتجاوزة ولا يشكل المتحدثون بها حول العالم سوى نسبة قليلة جدا، وفي تراجع، إلا أنها لا تزال اللغة المفضلة لمن يفتحون المظلات في الرباط عندما تتلبد الغيوم في باريس.
حتى في الأوساط العلمية، ليس هناك أي اعتراف باللغة الفرنسية، ولا تشكل هذه اللغة سوى نسبة ضئيلة جدا بين لغات الإنتاج العلمي، حيث تتصدر اللغة الإنجليزية العالم مكتسحة نسبة هامة جدا من الإصدارات العلمية حول العالم.
وهكذا، فإن الفرنسيين أنفسهم في التخصصات العلمية والإنسانية وحتى الأدبية، مُجبرون على تعلم اللغة الإنجليزية لتوسيع دائرة البحث والمعارف .التنقيب في الأرشيف، حيث تكمن الدروس البليغة أسفل الغبار والركام، يأخذنا إلى الحديث عن مؤتمر عُقد في قاعة فندق المامونية في الرباط، في أواخر يونيو 1934.
هذا المؤتمر كان الهدف منه تأسيس اتحاد لجمعيات التلاميذ المغاربة، وانعقدت في وقت سابق لجنة تأسيسية في الدار البيضاء.
وكان الهدف من هذا المؤتمر دراسة مسألة التعليم في المغرب، والسعي وراء تعدد المدارس الابتدائية بالبلاد واحتضان أبناء المغاربة بعيدا عن المقررات الدراسية الفرنسية التي كانت تضم مغالطات تاريخية.
الملفت في هذه التجربة المبكرة، التي أشرف عليها وطنيون مغاربة من رواد التعليم والقومية العربية في البلاد، أنها ركزت على النظر في فتح مدرسة عليا لتهييء أساتذة مختصين بدراسة اللغة العربية في المدارس العربية، لكي يشرفوا على تكوين الأطر المغربية التي سوف تتولى في المستقبل تدريس اللغة العربية لأبناء المغاربة. وقع هذا في مغرب كانت تسيطر عليه إدارة الحماية الفرنسية، وتتحكم فيه الإقامة العامة التابعة للحكومة في باريس.
وقبل أن يتهم أحد هذا الاتحاد بقوقعة التلاميذ المغاربة أو حصر التعليم المغربي في اللغة العربية، وجبت الإشارة إلى أن هذا الاتحاد أخذ على عاتقه مهمة جمع أموال التبرعات و«السلفات الشرفية» من شخصيات مغربية وبعض الأعيان المغاربة الغيورين على اللغة العربية، لتمويل رحلات للتلاميذ المغاربة، خصوصا المنتمين للفئات المعوزة، حتى يُتموا دراستهم في الخارج.
لماذا فكر المغاربة وقتها في تأسيس هذا الاتحاد؟ السبب أن الإدارة الفرنسية أرادت إغلاق ثانوية بمدينة فاس سنة 1932 بدعوى صعوبة تمويلها وغرق إدارتها في الديون. والحال أن الهدف من تلك الحملة كان إغلاق واحدة من أولى المؤسسات التعليمية المغربية التي أعطت الأولوية للغة العربية.
ووقتها كان رفض إدماج التلاميذ المغاربة في المدارس العامة، التي فتحتها فرنسا في المغرب أمرا مألوفا، خصوصا إذا كان هؤلاء التلاميذ المرفوضون ينتمون إلى عائلات وطنية أو غير مناصرة للإدارة الفرنسية.
ترى ماذا كان مصير اتحاد جمعيات التلاميذ المغاربة، الذي فكر أجدادنا في إحداثه قبل تسعين سنة من اليوم؟
في سنوات الخمسينيات، كانت الحركة الوطنية المغربية قادرة على فتح مدارس وطنية، كما أن فرنسا أيضا تساهلت قليلا وأبانت عن مرونة كبيرة في التعامل مع أبناء المغاربة وفتحت مدارسها أمام المزيد منهم دون أن يكون هناك أي إقصاء للغة العربية ومُدرسيها أو تقليص لعدد ساعات الحصص الأسبوعية.
دار الزمن دورته، ولأن الأزمنة رديئة بطبعها، لكي نرى كيف أن أولياء أمور مغاربة يرفضون أن تضاف ساعتان أسبوعيا لأبنائهم لكي يتعلموا فيها اللغة الرسمية للدولة، في بلد قضى «موتاه» ما يقارب قرنا من الزمن في محاربة «فرنسة» الدولة.
حتى أن توصيف «أولياء الأمور» يبقى فعلا مُجحفا في حق هؤلاء الذين يرفضون أن يتعلم أبناؤهم اللغة العربية في المغرب، بل وقاموا بمقاضاة المؤسسة التعليمية الفرنسية التي فتحت أبوابها في الرباط، لكي تتراجع عن الحصص الإضافية.
يونس جنوحي