شوف تشوف

شوف تشوف

السياسة وحيواناتها 

كم نحن بحاجة للأدب اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهو القادر أكثر من غيره على تشريح الأوضاع السياسية والخروج بالوصفات العلاجية الضرورية لتجنب الأمراض المزمنة للسياسة والتي نرى اليوم بعض الزعماء السياسيين، نظير إدريس لشكر ونبيل بن عبد الله وساجد والعنصر وغيرهم، يعانون منها بسبب تكلسهم وإصرارهم على التحول إلى مومياءات محنطة عوض التواري إلى الخلف وترك المجال لقيادات جديدة تقود أحزابهم.
عندما كتب محمد زفزاف روايته «بيضة الديك» فقد صنع ذلك ردا على بعض النقاد الذين اعتبروا أنه لن يستطيع تجاوز السقف الإبداعي الذي وصله في روايته الأولى «المرأة والوردة» الصادرة عام 1972، ولذلك فقد اعتبر زفزاف «بيضة الديك» رواية معذبة لأنها استغرقت منه ثماني سنوات من الكتابة.
ولعل اختيار زفزاف لهذا العنوان نابع من تحدي المبدع الذي لا يقبل أن يوصف بالعقم الإبداعي، لذلك اختار «بيضة الديك» عنوانا لروايته كنوع من السخرية من نقاده.
ويمكن أن نجد هؤلاء السياسيين الذين تحولوا إلى مومياءات كشخصية روائية عجائبية في أعمال أدبية كثيرة كرواية «تحولات الجحش الذهبي» لمؤلفها لوكيوس أبوليوس الذي جعل بطل روايته جحشا ذهبيا يقفز في كل الأمكنة ويدخل كل المغارات لكي يختزن القصص والحكايات التي سيرويها في ما بعد، أو رواية «أحلام بقرة» لمحمد الهرادي التي تروي قصة رجل، مساعد تقني، تحول إلى بقرة وبدأ في استكشاف العالم الخارجي، لكي ينتهي في آخر المطاف في المسلخ، ملخصا تجربته قائلا «كنت أسير كالحالم (…) حسبت نفسي أنني تهت في القدم وأن زمني قد انتهى بتحولي وخروجي، وأدركت أن علي أن أبتدئ من البداية، ولكن أية بداية».
وكان الصحافي المصري مدحت عبدالدايم قد نشر قراءة حول رواية زفزاف «بيضة الديك» كتب فيها أن «أصل كل شيء في الحياة أن يبقى الناس في وهمهم يعمهون، فكل الناس داعرون، وشريف النفس لا يملك عمرا طويلا، كل شيء يتم التعود عليه في حينه، الناس يقولون، وينتقدون أفعالا ما، لكنهم يرتكبون جرائم، ويفعلون أشياء لا يستطيع فعلها حتى الشيطان.
الرواية تضعنا بإزاء تاريخ من الرشوة والفساد والسقوط لنخبة حُسبت على السلطة، وشريحة اجتماعية فقدت قيمها تحت وطأة الحاجة، فجرفها الانحلال، وتجارة بعض رموز السلطة بأوجاع تلك الشريحة، فكانوا كمن أنيط بهم انتشال أولئك المنحرفين من أوحال الضياع، فسقطوا معهم بعد أن جرفهم تيار التحلل إلى هاوية عميقة.
كيف سقطت النخبة؟ وكيف بررت سقوطها؟ وكيف استسهل الجميع الكسب السهل؟ هذا ما تكشفه الرواية، وهي تسرد وقائعها المؤلمة بشيء من السخرية المضمرة والحزن الشفيف، فمن بائع لجسده إلى بائعة للمبادئ، إلى متاجر بمعاناة الناس، إلى مستغرق في اللذة دون تعقل، ومن موظفين فاسدين إلى شباب منحرفين، ومن طاقات مهدرة إلى أموال مهدرة، ينفقها من ينفقها على لذات تزيد معاناة المحتاجين والمحتاجات، وتكرس للبغاء الثقافي قبل الجسدي، فللمال سطوته في غيبة القيم، والأمر كذلك فإن المجتمع السفلي بالدار البيضاء ما هو إلا قناع يتخفى وراءه زفزاف بنسجه عشرات القصص عن واقع متكرر في كثير من بلاد المشرق، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، بل إن ذلك الواقع لا يقتصر على العرب دون سواهم، فلم تحل النهضة الأوروبية دون سقوط أهلها في براثن التمييز العنصري بين الطبقات، وهو ما يصرح به زفزاف في روايته التي يشارك في وقائعها مرتحلون من المشرق والمغرب إلى حيث متعهم الزائفة، وحيث حياة الرق التي لم يسلم منها الجاني والضحية».
قبل حوالي ثلاثين سنة صدر في فرنسا كتاب ساخر عنوانه «هذه الحيوانات التي تسيرنا»، خص فيه مؤلفه «رامبال» كثيرا من الزعماء السياسيين بالنقد اللاذع، حيث أنه اجتهد في البحث عن الأصل الحيواني لكل واحد منهم.
وبعد صدور الكتاب حقق أرقام مبيعات قياسية، ولا زال معروضا للبيع على الإنترنيت إلى اليوم. في كل الديمقراطيات الحقيقية يصف الصحافيون ورجال الإعلام والأكاديميون رجال السياسة الأقوياء بالحيوانات السياسية. وطبعا فلقب «الحيوان السياسي» لقب لا يطلق على أي كان، فكما أن هناك «حيوانات سياسية» فهناك أيضا «حشرات سياسية» تعيش حيثما كان العفن والماء العكر.
الحيوانات السياسية غالبا ما تكون مفترسة، تتشبه بالسباع والضباع والفهود. لكن هناك نوع آخر من الحيوانات السياسية تختار الدهاء والمكر والخديعة، ومثلها الأعلى هو الذئب والثعلب. لكن هناك حيوانات سياسية أخرى تختار نفاق التماسيح. وعندنا في المغرب محميات طبيعية واسعة حيث ترتع هذه التماسيح السياسية وتعيش. ومعروف عن التمساح أنه عندما يلتهم ضحيته، يبدأ في ذرف الدموع. ليس حزنا على ضحيته وإنما لأن عملية الهضم المعقدة التي يقوم بها الجهاز الهضمي للتمساح تتطلب ذلك، أي أنه يبكي لكي يهضم ضحيته بشكل أفضل.
وبالإضافة إلى التماسيح السياسية هناك في المغرب «جراثيم» سياسية تتكاثر حول جرح متعفن يسمونه السياسة يعرف الجميع أن الحل المتبقي لعلاجه هو اقتلاع الورم عوض دهنه بالمسكنات.
وكما أن هناك حيوانات تعطينا دروسا في الانتهازية والمكر والخديعة، هناك حيوانات أخرى تعطينا دروسا عميقة في الحياة. وبالنسبة للسياسيين فالحيوان المثالي الذي يجب أن يتعلم منه هؤلاء السياسيون المومياءات الدروس هو الفيل. فهذا الحيوان أولا لديه ذاكرة قوية، والذاكرة هي أهم جهاز يجب أن يحافظ عليه السياسي، لأنها تجنبه لعنة النسيان. حتى لا يخطئ المعركة ويخلط الجلاد بالضحية، ويضع رجله في المكان الخطأ ويده في يد الحليف الخطأ.
ثانيا عندما يشعر الفيل بقرب نهايته يجرجر أقدامه الثقيلة إلى مقبرة الفيلة ويجثو على ركبتيه بانتظار النهاية. فهو يجنب أشباهه رؤية العجز الذي يصل إليه حيوان ينحدر من آخر سلالة الحيوانات الضخمة.
ولعل رجال السياسة عندنا يحتاجون إلى تعلم أخلاق الفيلة، بحيث ينسحبون إلى الظل بمجرد ما يشعرون باقتراب نهايتهم السياسية.
المشكلة أن أغلب «الحيوانات السياسية» عندنا مولعة فقط بتقليد الضباع والتماسيح والثعالب والقردة، لكن القليل منها يبدو معجبا بنموذج الفيل. فهم يصرون على البقاء في «الحديقة» يتفرج عليهم العابرون، إلى أن يأتي من يطردهم منها بالقوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى