شوف تشوف

الرأيالرئيسية

السياسة من الإيديولوجيا إلى التكنولوجيا

 العلاقة بين ما هو علمي وما هو إيديولوجي علاقة إشكالية في جميع تجلياتها العملية – الواقعية من جانب، والمعرفية- النظرية من جانب آخر.

وهذه الإشكالية تنسحب في جزء كبير منها على العلاقة بين السياسة والإيديولوجيا، وطبيعة الدور التفاعلي بينهما.

الاكتشافات العلمية الهائلة في جميع مرافق الوجود لم تتمكن من طمس الظاهرة الإيديولوجية وتأثيراتها في تحديد وتأطير وتوجيه البنى الفكرية لدى تيارات سياسية واقتصادية وثقافية في كثير من المجتمعات الإنسانية، ذلك أن التعريف المجرد للإيديولوجيا، والذي يتقاطع عنده علماء الاجتماع والسياسة، هو أن «الإيديولوجيا نسق من المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية والدينية والفلسفية والجمالية، التي تعكس مصالح فئة اجتماعية محددة في مجتمع محدد».

الإيديولوجيا واقع موضوعي لا يستطيع أن يتنكر له أحد، ولكن السؤال المشروع هنا يتمحور حول كيف يمكن لإيديولوجيا معينة أن تغدو عامل تقدم في دفع العلم إلى الأمام؟ وهل يمكن لإيديولوجيا معينة أن تكون عامل تثبيط تحول بين مَبحث ما وبين العلم؟

أين تتقاطع السياسة مع الإيديولوجيا وأين تتنافر؟ وهل تستطيع السياسة ورجالها التخلص من تأثير الإيديولوجيا في الممارسة السياسية؟

يُعَرَّف العلم النظري بأنه «المعرفة التي تتألف قضاياها من أحكام عامة، أو قوانين تم الإتيان بالدليل العقلي المنطقي على صحتها»، وكان ظهوره الأول في اليونان، بعد أن تجمعت كمية من المعارف الجديدة كافية لتكوين نظرة إلى العالم تختلف بمضمونها العام اختلافا كبيرا عن النظرة التقليدية المألوفة، سواء الأسطورة أو المكرسة دينيا، أو السائدة في المجتمع، ترافق ذلك مع ظهور قوة اجتماعية ذات مصالح سياسية كبيرة، ولها مصلحة إيديولوجية في دخول صراع مع ممثلي الأفكار التقليدية، وفي تشجيع التفكير النظري.

ضمن هذا الإطار تبرز الإيديولوجيا كغاية عملية، لا علمية، إذ شكلت وعاء تحريضيا لفكر الإنسان اليوناني، انطلاقا من معطيات ومعارف نظرية فحسب.. ومع تطور العلوم ومناهجها وأدواتها وتخصصاتها، تحولت السياسة من مجال الفن والمهارة إلى مجال المعرفة الشاملة والاختصاص العلمي، الذي يسخر العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية والقانونية لخدمة أهدافه وخططه، إضافة إلى كونه علما يُعنى بإدارة الدول والأنساق المجتمعية والعلاقات الدولية وإدارة الأزمات…

في الممارسة العملية، توسعت سياقات علم السياسة وتنوعت روافد السياسيين بعلوم العصر التقنية والاجتماعية والاقتصادية، وَتَقَدَّمَتْهَا الروافد التكنولوجية على حساب الطروحات الإيديولوجية، حيث تم توظيف الإعلام والمعلوماتية والإنترنت في خدمة الأداء السياسي، وصار لها الأولوية ضمن أدوات السياسة والسياسيين، ما أسهم في تعزيز موقع السياسة كعلم مستقل، قائم على معطيات وقواعد ومعايير خاصة، مع احتفاظه بمرونته وتفاعله مع بقية العلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد برهنت أحداث القرن الحادي والعشرين بمختلف مضامينها السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية على أن المعرفة العلمية مقدمة أساسية للظفر بالمعارك السياسية، ومن المعرفة العلمية وحساباتها المجردة يستقي علم السياسة ورجالها المعايير المُحكمة، التي لا تتأثر بالمضامين الإيديولوجية ولا تخضع في توجهاتها للأساليب العاطفية والتعبوية الغريزية، التي تطرحها.

هل يعني تراجع تأثير الإيديولوجيا في الأنساق السياسية أمام الاجتياح التكنولوجي مزيدا من استقلالية السياسة كعلم على حساب الإيديولوجيا كرافد معرفي؟

تنقية علم السياسة من المؤثرات الإيديولوجية لا تعني موت الأخيرة ودفنها نهائيا، أما هزيمتها على الصعد الاجتماعية والثقافية فهي مستبعدة، لأنها مرتبطة أساسا بمصالح وغايات طبقة معينة، وتمثل أسلوبا تعبيريا لتلك الطبقات والفئات.

عبد الحميد توفيق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى