السيادة عند علال الفاسي
خالد فتحي
يتردد على مسامعنا كثيرا لفظ سيادة، من قبل سياسيين وخبراء ومفكرين، بل تحول هذا الإقبال على استعماله إلى تفنن في استكشاف مفاهيم جديدة له، لم تكن مطروقة من قبل. ومع جائحة كورونا، وحرب أوكرانيا، وانكفاء الدول إلى حدودها، واضطراب سلاسل التوريد، وعودة الحمائية، وحرب العملات والغاز، وظهور تهديدات صحية وغذائية وطاقية ومائية ومناخية، تحور معنى السيادة الكلاسيكي البسيط، الذي كان يعني سيطرة الدولة على مجالها الترابي وحمايتها له من التدخل والاعتداء الأجنبي، ليصير نحو معان شتى. فلقد أظهرت الأزمات المتسارعة أخيرا حاجة الدول إلى حكامة المجهول، وإلحاحية الاعتماد على نفسها، وتأكيد سيادتها التي تفرعت وتوزعت هذه المرة على كل المجالات، فكان أن عادت مرة أخرى في ظل عدم اليقين إلى التظلل بهوياتها من جهة، وإلى التثبت صباح مساء من إمكانية الوفاء بهذه الوجوه الجديدة للسيادة من جهة أخرى، وهو ما جعلها تؤوب إلى قراءة تراثها مجددا، بعدما لمست انقطاع أنفاس العولمة، وظهر لها وهم انتصار الرأسمالية وتهافت أطروحة الإنسان الأخير، وخبل فكرة إنهائه للتاريخ.
ولذلك، من الطبيعي أن يهرع أبناء الزعيم علال الفاسي إلى خزانة هذا المفكر والمناضل الفذ، باحثين عن بذور قد يكون نثرها هذا الزعيم في كتاباته للمفاهيم الجديدة للسيادة، لم ينتبهوا إليها. من المؤكد أن هذا التحدي يطرح لأول مرة بهذا الشكل في وجه المنقب في فكر الزعيم، ويحسب لقيادة حزب الاستقلال أن تختبر الفكر العلالي في هذه المسألة بمناسبة ذكرى رحيله، فالمخاطر التي نواجهها لم تكن من قبل بهذه الحدة والجدة. والسؤال هو: هل اكتفى علال بتبني السيادة في معناها التقليدي، الذي يعني عدم الوقوع تحت نير الاستعمار، وممارسة الحكومة الوطنية لصلاحياتها في حدودها الحقة، كونه الزعيم الذي نفي إلى الغابون، وتقلب في الأرض كفاحا من أجل استقلال المغرب وكافة دول العالم العربي والإسلامي، أم أنه كان قادرا كمفكر ألمعي على أن يبصر المستقبل، وأن ينظر في زمنه للمفاهيم المستجدة للسيادة في زمننا؟
أعتقد أنه سيكون من التحذلق أن نقول إن علال قد أثار هذه الأشكال الجديدة للسيادة وسماها بمسمياتها الحالية. فعلال كان يواجه على عكسنا نحن استعمارا ماديا بمقيم عام، وسلطة أجنبية، ونهب فظيع لخيرات البلاد، وهذه المفاهيم الجديدة من قبيل السيادة الغذائية، السيادة الطاقية، السيادة الصحية إلخ لم تكن قد اختمرت بعد، ولكنه مع ذلك هو علال الذي سك أيضا مفاتيح فكرية تجعلنا نحن ورثة فكره نتوصل من خلال إعمالها إلى تبين مثل هذه المفاهيم السيادية الخاصة بأوقاتنا، إذا قرأنا أفكاره على ضوء مشاكل وتطورات عصرنا. فقد كان ينبغي أن تقع تطورات تقنية وتكنولوجية واستراتيجية وعولمية، لتنفرز هذه الهموم الجديدة للسيادة الوطنية. لم تحضر تلك المفاهيم كمصطلحات، ولكنها كانت حاضرة لديه كمحتوى.
علال ركز على الجانب السياسي، واعتبر أن السيادة تعود للشعب، من خلال مؤسساته التي ينتخبها انتخابا حرا نزيها، ولذلك كانت السيادة لديه تعني نقيض الاستعمار، وكان الاستعمار الذي يواجهه هو استعمارا من لحم ودم، استعمارا يحتل الأرض والإنسان. ولذلك علال سن حربه الأساس على هذا النوع من الاستعمار. ولكن علينا نحن أن نتأسى به، ونشن حربنا على الاستعمار الجديد، الذي يحتل العقول والوجدان، ويقتل القيم ويمسخها، ويسلب المقدرات، دون حاجة إلى أن يوجد ماديا.
لم ينس علال الفاسي في كتابه «النقد الذاتي» أن يؤسس لنهضة الأمة المغربية في المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية، والذي ضمنه بالخصوص، طرائق التفكير السليم الذي يجنبنا المزالق ويقودنا إلى القرارات والبرامج الصائبة.
فلو أعملنا منهجه في التفكير، لما انتظرنا أن تندلع الأزمات الحالية، لنسك هذه المفاهيم الجديدة التي ننحتها للأسف، في توقيت متزامن مع باقي دول العالم. تحذير علال من ارتجالية التفكير عند العرب، معناه دعوتهم إلى التخطيط الاستراتيجي الذي يمتد على عقود، وعدم ترك الأمور على الغارب، إلى حين أن يتفاجؤوا بالأزمات الوجودية. علال دعا إلى التفكير في الحوادث قبل وقوعها، وبالتالي إلى نهج الاستباقية لتوفير حظوظ النجاح. هذا ما يتطلب في وقتنا هذا التفكير في أمننا القومي بمفهوم السيادات الأخرى، أما دعوته إلى أرستقراطية التفكير وإلى توجيه الرأي العام من طرف النخبة، فتلك وصفات كانت ستقف سدا منيعا ضد التفاهة والشعبوية والاستلاب القيمي، الذي يفقدنا السيادة الثقافية والحضارية. علال الذي نادى بتوجيه الأنانية التوجيه الصحيح، وبالتفكير اجتماعيا لمصلحة المجموع، والتفكير شموليا، أي إلى التفكير المعقد المتشابك الذي يحيط بالمواضيع كل على حدة وفي ترابطها أيضا. كان في الحقيقة ينادي إلى عدم إهمال أي جانب من جوانب السيادة.
الواضح أننا نعيش اليوم انكماشا خطيرا في مفهوم السيادة، حتى لقد أصبحنا أمام سيادة مرنة أو سائلة أو نسبية، وحتى أمام دول بدون سيادة، بسبب زيادة الاعتماد المتبادل للدول على بعضها البعض، وهو ما يؤدي إلى انكشاف سيادة بعض الدول ليس على مستوى حدودها، بل على مستوى ارتهانها للخارج في قطاعات حيوية.
إن علال يمثل في هذا السياق نبعا لا ينضب، إذا كنا قادرين على أن نسبر فكره وقادرين على توليد واستنباط مفاهيم كامنة فيه، من خلال قراءة علمية رصينة، لا قراءة حماسية تمجيدية لا تستطيع بعجلتها استكناه المقاصد التي زرعها بين ثنايا تنظيراته.
أعتقد أن علال الفاسي سبق زمانه بكثير. لقد اعتبر أن الاستقلال المغربي يجب أن يتبعه توحيد الشمال الإفريقي. ولذلك لو سارت الأمور كما كان ينصح هذا المناضل والمفكر العضوي، لكانت السيادة الوطنية الآن، تعني لنا السيادة الوطنية المغاربية. فالمغرب العربي الكبير قادر الآن أن يحقق لنا سيادة وطنية، تستوعب هذه الأنواع أو التفصيلات الجديدة للسيادة. علال أعلنها صيحة مدوية بعد الاستقلال مباشرة، قائلا: «لم يعد هناك مجال للعزلة، ولا الوطنية الضيقة في هذا العصر».
وأخيرا، لقد حذرنا علال الفاسي من التخلص من الحماية الاستعمارية، للسقوط بعدها في براثن الحماية الفكرية للغرب.
ولذلك أعتقد أن علال الفاسي لو كان حيا بيننا اليوم، لطور مفهومه للسيادة الوطنية، ولحصره في السيادة الثقافية والحضارية، إذ أمام مد العولمة، يمكن لنا دائما أن نستفيد من السلع التي نحتاجها في حياتنا المادية، فتلك سلع يتوصل إليها العلم الذي يتنقل من أمة إلى أخرى، ولا جنسية له، لكنه لابد لنا أن نحتاط من السلع الثقافية، لأنها نتيجة للفكر والحضارة التي تختلف من أمة لأخرى، وبالتالي علينا أن نحافظ على هويتنا الخالصة، دون تحجر ودون ميوعة واغتراب وانهيار وضعف وتبعية، أي أن نحافظ على سيادتنا الحضارية، فبدونها سنضمحل، حتى لو كنا نرفل في النعيم داخل حدودنا. فقدان السيادة الحضرية يعصف بمفهوم السيادة الوطنية.