ياسر عبد العزيز
في الوقت الذي تكسب فيه «السوشيال ميديا» كل يوم مساحة جديدة في تشكيل الرأي العام وإرساء أولوياته، تتزايد الحاجة إلى البحث عن وسائل للحد من الاختلالات الكبيرة التي تعتري أداءها.
لأسباب عديدة تتعلق بطاقتها وديناميات التفاعل عبرها، بدا أن الوظيفة الإخبارية لـ«السوشيال ميديا» تتطور باطراد، وبموازاة ذلك، فإنها باتت أيضا وسيلة للالتفاف على بعض القيود التي تعانيها وسائل الإعلام «التقليدية»، وهي ليست بالضرورة قيودا تتعلق بالمواءمة السياسية، بل إن بعضها يتصل بالبُعد الأخلاقي، الذي ما زال بالإمكان إيجاد أثره في العديد من منشورات تلك الوسائل «التقليدية» في بيئات صحفية مختلفة، فكثير من التفاعلات التي تتناول الشأن العام عبر «السوشيال ميديا» تحفل بانتهاكات أخلاقية، وبعض هذه الانتهاكات تصدر عن أشخاص تدربوا طويلا على العمل من خلال الوسط الإعلامي «التقليدي»، وتدربوا أيضا على احترام بعض القواعد الأخلاقية، التي ما زال هذا الوسط يحتفي بها، ويلتزم ببعضها بنسب متباينة.
وربما يبدو الحديث عن الأخلاق في ما يتعلق بالأمور المهنية الاحترافية أمرا غريبا؛ لكن الواقع يؤكد أن الالتزامات الأخلاقية ظلت حاكما رئيسيا لنجاعة الأداء المهني، وشرطا واجبا لضمان حماية مصالح الأطراف المتصلة به.
لذلك ظهرت مواثيق الشرف الصحفي أو Codes of ethics or conducts ، كما ظهرت أدلة العمل التحريري أو Editorial Guidelines، إضافة إلى ميراث كبير من آليات التنظيم الذاتي للعمل الإعلامي Self-Regulation، وهي آليات استهدفت جميعها تعزيز الممارسة الأخلاقية في العمل الإعلامي، ومحاولة الحد إلى أقصى درجة ممكنة من الأضرار غير الموضوعية التي يمكن أن تسببها الممارسات الإعلامية لبعض الأطراف. ويمكن القول إن ميراثا كبيرا من أدبيات الضبط والتنظيم ومواثيق الشرف التي استهدفت تعزيز النزعة الأخلاقية في الممارسة الإعلامية ترك أثرا يمكن قياسه على جودة المواد الإعلامية التي تم بثها للجمهور على مدى قرن من الزمان، من دون أن يعني ذلك أن تلك الممارسات لم تحفل بالكثير من الإساءات والحدة والإضرار بمصالح الأطراف في نظم إعلامية مختلفة.
وفي الوقت الذي كانت فيه أدبيات الإعلام والأكاديميات ومراكز التفكير والمؤسسات الإعلامية ذاتها تبذل جهودا لتعزيز النزعة الأخلاقية في الأداء الإعلامي، تغير المشهد الاتصالي العالمي قرب نهايات القرن الفائت.
وكان الملمح الأساس في هذا التغير يتعلق بظهور الإعلام الرقمي بتجلياته المختلفة، وخصوصا ما اتصل منها بما سُمي «وسائل التواصل الاجتماعي».
فرض الإعلام الرقمي تحديات كبيرة على مبحث أخلاقيات الإعلام، وكان أحد أهم تلك التحديات ما يتعلق بمفهوم الصحفي نفسه وقدرتنا على تعريفه، إضافة بالطبع إلى فكرة سقوط حارس البوابة، وهي الفكرة التي كانت محورا أساسيا اعتمدت عليه وسائل الإعلام «التقليدية» في تعزيز النزعة الأخلاقية في الأداء الإعلامي.
لقد منحتنا وسائل «التواصل الاجتماعي» فرصا عديدة حين قصرت المسافات، وسهلت الاتصالات، ونقلت الأفكار والصور، وعززت مفاهيم الحداثة، لكن في مقابل هذه الميزات والفرص الكبيرة ظهرت المخاطر الفادحة؛ ومنها الكذب، وتشويه الحقائق، وتأجيج النزاعات، والتحريض على العنف، وإشاعة خطاب الكراهية، والخضوع لـ«الميليشيات الإلكترونية»، التي يجري استخدامها كأداة للتزييف والاختلاق والاغتيال المعنوي. ستشهد السنوات القليلة المقبلة اختبارا صعبا لتلك الوسائل ومستخدميها، فإما أن تستطيع أن تطور وسائل تنظيمية تحد من أخطائها وتعزز أداءها الإخباري والاجتماعي، وإما أن تستسلم للممارسات الحادة والمنحرفة، فتصبح أدوات للتخريب، وتقويض أركان المجتمعات وهز سلمها الأهلي والعبث بمقدرات الأفراد والدول.
على أي دولة تواجه أزمات حادة أن تدرك أن الدور الذي تلعبه «السوشيال ميديا» أخطر من أن يُترك بلا إدارة مُحكمة واحترافية؛ ففي ظل تلك الأجواء تسبق وسائل «التواصل الاجتماعي» الإعلام التقليدي بمراحل، وتهيمن على مجال الأخبار العاجلة والمهمة، وكثيرا ما تصوغ الانطباع الأول، الذي يصبح، في أحيان عديدة، مرادفا للحقيقة. تحتاج الإدارة الإعلامية للأزمات الحادة إلى إدارة حكيمة للبيئة الإعلامية، كما تحتاج إلى إدراك أن كل مساحة يتخلى عنها «الإعلام التقليدي» تكسبها «السوشيال ميديا»، وتلك الأخيرة لا تخضع لأي ضبط سوى ما يرتضيه المستخدم لذاته، والحل يكمن في تعزيز أداء «الإعلام التقليدي»، ودعمه، وتزويده بالمعلومات المطلوبة، ما دامت غير محظورة، في توقيتات مناسبة، ليصبح مصدر اعتماد الجمهور الأساسي.
إن تطوير الوازع الأخلاقي، وتأطيره في مدونات ومواثيق وضوابط ومعايير، يجب أن يستمر في مجال «الإعلام التقليدي»، وبموازاة ذلك، فإن ثمة ضرورة لإدخال هذا العنصر في أداء وسائط «التواصل الاجتماعي». سيكون هذا عملا صعبا ومعقدا، لكن عدم البدء فيه سيقود إلى مخاطر كبيرة.
نافذة:
تحتاج الإدارة الإعلامية للأزمات الحادة إلى إدارة حكيمة للبيئة الإعلامية كما تحتاج إلى إدراك أن كل مساحة يتخلى عنها «الإعلام التقليدي» تكسبها «السوشيال ميديا» وتلك الأخيرة لا تخضع لأي ضبط