«السفير» الورقية.. في انتظار الاستقلاب
تاريخ صحيفة «السفير» اللبنانية، الذي بدأ في 26/3/1974، انطوى على صفحات كثيرة مجيدة، وأخرى سارت على نقيض صارخ يستدعي الكثير من نعوت الانحطاط؛ كما أنها، في سياقات هذه السيرورة، قلبت العديد من المعاطف، ونقّلت ولاءاتها مراراً وتكراراً. إنها الصحيفة التي احتضنت كتابات ياسين الحافظ وعبد الرحمن منيف وإلياس خوري وجوزيف سماحة، وقدّمت شخصية حنظلة في رسومات ناجي العلي، وتابعت الصدور على مبعدة أمتار من دبابة الاجتياح الإسرائيلية سنة 1982. وهي، أيضاً، الصحيفة التي اختارت، مطلع 1979، أن يكون المانشيت الرئيسي فيها باللغة الفارسية: «بهمت خميني.. شاهنشاه در به در شده»، أي «بهمّة خميني بات الشاه مشرداً»، وكان ذلك إنذاراً مبكراً يخصّ واحداً من كبرى تحولات الصحيفة، التي ستبلغ ذات يوم درجة «التطنيش» التام عن أخبار جرائم الحرب والمجازر التي يرتكبها النظام السوري وميليشيات إيران و«حزب الله» في سوريا.
هو تاريخ إشكالي إذاً، له ما له، وعليه ما عليه؛ أسوة بمعظم الصحف اللبنانية العريقة، وتلك الأعرق أيضاً. وإذا جاز القول إنّ المحطات والنقلات التي عاشتها الصحيفة كانت انعكاساً صادقاً لهزّات وانقلابات «النموذج اللبناني» ذاته، في السياسة والاقتصاد والأحزاب والمحاصصة الطائفية والإعلام… فإنّ الصحيح الآخر هو أنّ المال السياسي الخارجي، المرتبط بأنظمة عربية ـ «تقدمية» أو رجعية، سواء بسواء ـ كان سمة التمويل الكبرى، وربما الوحيدة في حالات غالبة. واجتماع هذه العناصر، وحدها، كفيل بتقويض مؤسسات سادت ورسخت ولاح أنها استقرت حتى إشعار طويل؛ لولا أنّ للمال السياسي أطوارا لا تحمد عواقبها، ومن خصاله أن يقلب ظهر المجنّ… حتى دون إنذار مسبق!
فكيف، إلى هذا، إذا كانت أزمة الصحافة اللبنانية الورقية مقترنة، كلّ الاقتران في الواقع، بالمآزق البنيوية الراهنة لذلك «النموذج اللبناني» إياه: من غياب الرئاسة، إلى ما يمثّله «حزب الله» من دولة داخل الدولة (الهشة لتوّها، الشائخة رغم عقود عمرها القليلة!)؛ ليس دون المرور بأزمات دراماتيكية أوضح، وأعطنَ رائحةً، مثل العجز عن تنظيف العاصمة بيروت من القمامة. وكيف، استطراداً، إذا كان ذلك الاقتران ذاته بمثابة «شاخصة» منفّرة، أقرب إلى الفزاعة، تُبعد القارئ اللبناني/ المواطن عن دفع أي ثمن بخس لقاء صحيفة مؤجرة، لكي لا يردف المرء: بل مأجورة كذلك؟ وكيف، ثالثاً، إذا كانت الاستقطابات الطائفية في البلد عنصراً تكوينياً في توصيف هذه الصحيفة أو تلك، بحيث تكون واحدة للشيعة، وأخرى للسنّة، وثالثة للموارنة، ورابعة للدروز، وخامسة… للروم الأرثوذكس!
ثمة، بالطبع، فضيلة شكّ واحدة يمكن أن ترتبط بقرارات إقفال الطبعة الورقية من صحيفة مخضرمة كـ«السفير»، وسواها؛ وهي أنّ الإعلام المعاصر شهد في العقد الأخير انفجارات تكنولوجية هائلة، وتحوّلات جذرية في الشكل والمحتوى، وباتت المواقع الإلكترونية للصحف الورقية، ووسائل الإعلام التي لا تصدر إلا إلكترونياً، وشبكات التواصل الاجتماعي، والمدوّنات… هي الحاضنة الأكثر ديناميكية لاستقبال وإنتاج أنساق التبادل المعلوماتي المختلفة. ويصحّ هذا، بصفة أخصّ، على الشرائح الشابة التي تنأى عن وسيلة الإعلام الورقية، بل وسائل الإعلام التقليدية عموماً؛ إما لأنها باتت جزءاً من ماضٍ لم يعش فيه الشاب، أو لأنه يأنف من ابتياعها وقراءتها لأسباب أخلاقية تخصّ نفوره من ولاءاتها وارتباطاتها.
فهل ستُرفع الأقلام وتجفّ الصحف، في «السفير» على سبيل المثال، لأنّ «الظروف قد اختلفت، خاصة في ظل ثورة المعلومات (مواقع التواصل)، فضلاً عن تبدل الأحوال في طول الوطن العربي وعرضه، نحو الأسوأ، مع الأسف»، كما كتب طلال سلمان في رسالته إلى أسرة «السفير»، فحسب؟ أم أن معطيات «تبدّل الأحوال» لا تستبعد طور انقلاب جديداً، مقبلاً، لعله يشبه الاستقلاب؛ ينقل ولاء الصحيفة من حال إلى حال؟