السفير الذي فتح العيون على إزالة «النواويل»
ترك لي رسالة قصيرة على هاتفي الأبكم، يقول فيها: ما أظنك تناسيت مرور السفير المغربي زين العابدين العلوي في الجزائر. لم يكن السائل غريبا بصوته ونباهته، فهو أستاذ جامعي متقاعد يبتعد عن الأضواء. كلما سهوت عن واقعة، أو قدمت نصفها على الآخر، يذكرني بلطفه، مثل منبه لا يشتغل إلا عند الأخطاء غير المقصودة طبعا.
لم يكن القصد من وراء الكتابة عن «سفراء فوق العادة إلى الجزائر»، أن أعرض لمسارات كل الدبلوماسيين، ولكنها مجرد لقطات تنفع في معاودة ربط الماضي بالحاضر. وكنت تلقيت رسالة ودية من السفير المغربي عبد القادر بن سليمان، الذي جمع بين السياحة والدبلوماسية، لأن باب مكتبه كان مفتوحا، وقال لي إن أحسن عمل دبلوماسي وأنجعه على الإطلاق أن نجعل الجزائريين يتعرفون على المغرب عن كثب.
زار وفد إعلامي جزائري المغرب في فترة انفراج قصير، وسجل أحد على رزنامته أن المغاربة استعدوا جيدا لتلك الزيارة. فأغرقوا الأسواق بالمنتوجات الزراعية من خضر وفواكه في غير مواسم الغلل. كل ما فعله أنه كان يقارن ما لا يحتمل المقارنة، حيث لا قياس مع الفارق. فقد تصور أن الدولة وأجهزة الاستخبارات تتحكم في تدفق السلع والبضائع والمنتوجات من عدمه. ودهش أعضاء الوفد عندما اكتشفوا أن حالة أسواق الرباط لا تختلف عن أي مدينة أخرى، وأن سياسة تحرير العرض والطلب تكفي الزبائن مشقة أخذ صور تذكارية مع وفرة المنتوج، كما هي حال الجزائر قبل تراجع أسعار النفط.
أصل إلى أن فترة تولي الدبلوماسي زين العابدين العلوي المسؤولية في سفارة المغرب في الجزائر، انطبعت بإيحاءات، ليس أقلها اعتماد مقربين إلى القصر إلى مسؤوليات دبلوماسية بإشارات غير خافية، كانت تتجسد في اختيار أفراد من الأسرة الملكية لتدبير ملفات سياسية. فقد ساد اعتقاد بأن بعض المشاكل ومظاهر سوء الفهم لا تكمن في الرسائل، وإنما في قدرة حامليها على تبليغها كما هي، بلا زيادة أو نقصان. فالدبلوماسيون يكونون أكثر تحررا عند إدراك أن لا حواجز ولا عقبات روتينية تحول دون إيصال الرسائل، حتى لو كانت بطعم مقلق.
لهذه الغاية وأكثر منها جرى تعيين السفير مولاي الحسن بن المهدي في فرنسا وألمانيا في مرحلة دقيقة. وما قصة المفاوضات والاتصالات التي أجراها مع المعارض التاريخي المهدي بن بركة، الذي لم يعد إلى البلاد حيا يرزق، ببعيدة عن الأذهان. وكذلك كانت مسؤوليات الأميرة للاعائشة في لندن وروما لترسيخ فكرة أن نساء المغرب دبلوماسيات وخبيرات.
ولعل أكثر الملفات حساسية كان يباشرها دبلوماسيون يقفزون فوق التعقيدات الإدارية. وكما كان الوزير الأسبق في المالية عبد القادر بن سليمان، الذي تولى سفارتي المغرب في ألمانيا والجزائر، لا يجد صعوبة في تشغيل الهاتف المباشر، تميزت فترة السفير زين العابدين العلوي بأنها جمعت بين الرهانات الاقتصادية والسياسية، بحكم تجربته على رأس الشركة المغربية – الكويتية للتنمية. لكن الأمر كان أكبر من قدرات الأفراد، حين تتعطل إرادة البناء المشترك، فيغلب الحذر على الثقة والنفور على التقارب.
عندما أقرت الرباط وطرابلس فتح صفحة جديدة في علاقاتهما، وقع الاختيار على شخصية مقربة إلى القصر، لم يكن مقر إقامتها في العاصمة الليبية يخلو من تردد رجال العقيد معمر القذافي، ومما نقل عن الأخير أنه طلب يوما رفيقه قبل انقطاع الود الرائد عبد السلام جلود، فلم يتم العثور عليه، فقال القذافي: اذهبوا إلى مقر السفارة المغربية ستجدونه هناك. فقد اضطلع مولاي إدريس العلوي بمسؤولياته الدبلوماسية في بلاد العقيد في فترة معاودة ترميم بناء تهدم، واهتم بأن يضع له الأسس التي تكفل نسخ الوئام حجرة على حجرة.
بيد أن الدبلوماسي زين العابدين العلوي كانت له اهتمامات شاسعة بقضايا الفكر والتراث والتاريخ، وقد خاض تجربة لافتة في الكتابة التي تعززها الوثائق والشهادات وروايات «العنعنة» التي أنقذت موروثا عظيما من التلف والاندثار. ومن ذلك أنه كتب عن تاريخ المغرب في فترات عديدة، عرضت لمختلف التحديات، وضمنها ظروف وقوع المغرب تحت الاحتلال الفرنسي والإسباني.
الظاهر أنه لم يكن ينظر إلى محور العلاقات المغربية – الجزائرية خارج النسق والسياق التاريخي، ومكنه إلمامه بالتحديات الاقتصادية، باعتباره اشتغل في فترة من حياته في إدارة التخطيط وبنك المغرب، من الجمع بين المنظورين الاقتصادي والدبلوماسي، كما أنه عمل كذلك سفيرا للمغرب في المملكة العربية السعودية، وتميز مساره بانفتاح كبير على دول مجلس التعاون الخليجي.
وأنهي بوثيقة تضمنها كتاب السفير زين العابدين عن فوضى البناء العشوائي في الدار البيضاء، حيث اضطر نقيب شرفاء إلى مكاتبة السلطان لإخباره بمظاهر استغلال النفوذ وتشجيع بناء «النواويل»، ما يدل على الفطنة الاجتماعية السابقة لأوانها، بخاصة إذا علمنا أن الرسالة كتبت في الخامس من ديسمبر من العام 1891. وقد حفلت مؤلفاته بالكثير من الوثائق النادرة ذات المرجعية الموضوعية العالية. وأذكر عن كل ما يسهو عنه العقل قبل القلم.