السرطان المخيف
خالص جلبي
السرطان حيوان قشري لا يثير منظره الرعب، ولكن هذا الحيوان البريء اقترن بطائفة من الأمراض تعتبر الإصابة بها بمثابة الحكم بالإعدام على حاملها ولو بعد حين، فحين يطبق على الإنسان لا يتركه إلا وقد مات الاثنان، السرطان وحامله، فهو يتصرف بحماقة القرد الذي نشر الغصن الذي يقعد عليه من شجرة الحياة، ولكن لماذا سمي هذا المرض المفزع بالسرطان؟ ولماذا يحمل انعدام الأمل، واقترن بالموت؟ وإذا كان له آلية عمل فهم هناك سرطانات اجتماعية، أو وضع سرطاني اجتماعي مثل سرطانات الأفراد البيولوجية.
وإذا كانت الثورة البيولوجية الحديثة تجتاز فضاءات معرفية جيدة لفك لغز السرطان، والسيطرة على الأمراض الوراثية وجراحة الكروموسومات ومعالجة مرض الإيدز، فأين العلوم الاجتماعية من هذا؟
تقدم إلي الأستاذ الثانوي وهو يبتسم: «جميل إني رأيتك في المخبر هنا، وأود استشارتك في هذه الكتلة التي أحس بها في إبطي الأيسر»، كنت في ذلك الوقت جديد التخرج من كلية الطب، وليس عندي تصور لمثل هذا النوع من الأمراض الرهيبة، تحسست منطقة الإبط التي أشار إليها، فشعرت بكتلة صغيرة بقدر البندقة أو الجوزة الصغيرة تتحرك تحت أناملي، قلت له: «من الأفضل أن تؤخذ للفحص النسيجي لمعرفة طبيعتها»، إلا أن المعلومات التي تواردت بعد ذلك أعطت صورة مختلفة لطبيعة هذه العقد اللمفاوية المتضخمة، فالرجل كان قد شعر بأن شامة (خال) في ذراعه بدأت بالكبر فلم يعرها انتباها، إلا أنها مع الوقت بدأت تغير طبيعتها بكبر الحجم واسوداد اللون والتقرح وغياب الشعر منها والنزف، ثم بدأت العقد اللمفاوية الإبطية بالانتفاخ، وخلال الأشهر القليلة التالية لم ينفع أي علاج من جراحة وتفريغ الإبط من العقد اللمفاوية أو الأشعة الحارقة أو المعالجة الكيماوية من استخلاص الأستاذ الرفاعي – رحمه الله- من قبضة السرطان والموت، فواراه التراب شابا ذكيا نشيطا. ووقفت أردد مع الشاعر:
ألا رب وجه في التراب عتيق ويا رب حسن في التراب رقيق
ويا رب رأي في التراب ونجدة ويا رب حزم في التراب وثيق
فقل لقريب الدار إنك راحل إلى منزل ناء المحل سحيق
وما الناس إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق.
يبدو أن هنالك علاقة جدلية ما بين الأشياء، فما هو شر لطرف قد يكون خيرا لطرف ثان، وما يضحك البعض قد يبكي الآخرين، وعندما يخسر طرف يربح الآخر. وإذا طار المال من يد سقط في يد أخرى، وفي اللحظة التي تتدفق فيها الحياة في مكان يستولي الموت في مكان ثان، ومع كل شروق شمس تدفع الأرحام الأجنة إلى الحياة، ومع كل غروب شمس تستقبل القبور طوابير الأموات!
وعندما بدأ مرض الإيدز في الانتشار عكف الأطباء على دراسة طبيعة هذا المرض، حيث عرف أن طبيعة المرض يمكن إرجاعها إلى فيروس ذي طبيعة قلوبة عكوسة، فهو بدلا من وظيفته في تلقي الأوامر من أعلى من مركز الخلية، فإنه يمشي (عكس) التيار وضد الطبيعة، فيتسلل إلى الخلية ومكان المفاتيح الرئيسية، بل ويقص تركيب الحامض النووي الذي يعتبر الشيفرة السرية لبناء كل محتويات الجسم ويفسح المجال لنفسه، فليس أمام الخلية إلا إعادة طباعة هذا الغازي وتشكيل فوتوكوبي مكرر في نموذج هذا اللص. وهكذا تتبع الخلية مضاعفات ومشابهات هذا الفيروس، أي تصبح نواة الخلية مركز إصدار أوامر لتوليد المزيد والمزيد من نسخ جديدة للفيروس المقتحم، وبذا يتحول المقود قائدا والعبد سيدا.
الفيروس القلوب هذا (الريتروفيروس) سوف يصبح مفتاحا للدخول إلى الخريطة الوراثية عند الإنسان، فكما استخرج البنسلين من العفن (عفن المقابر قيل) وكما استخرج الأنسولين من جراثيم الغائط، سيكون هذا الفيروس المجرم بعد ترويضه حلقة الوصول إلى مفتاح الخريطة الرئيسية ومكان إصدار الأوامر، لتشكيل قطعات الجسم وتشكيلاته الأساسية من أجل إدخال التعديل المطلوب، ولكن كيف يدخل؟ ما هي مكوناته؟ ما هي هذه الخريطة الوراثية والشيفرة السرية؟ وأين تقعد؟
مع إنجازات الطب الحديثة وكشوفات المجهر الإلكتروني المكبرة عشرات الآلاف من المرات، أمكن معرفة أن كل ما تقع عليه عيننا ليس أبسط الأشياء ولا أصغر الموجودات، فالشعرة التي تسقط من رأسنا والعشبة التي نطأها بأقدامنا وقطعة الخبز التي نلوكها بأفواهنا، مكونة من وحدات أصغر وأصغر مثل قصة الصندوق داخل الصندوق إلى ما لا نهاية! وهكذا فالشعرة الواحدة وقلامة الظفر التافهة وقشرة البصل التي لا نأبه لها مكونة من ملايين ملايين الوحدات، التي تشكل كل وحدة فيها كيانا قائما في ذاته مستقلا، عاملا بمفرده وبالانسجام مع نظيراته وأشباهه من الخلايا أو المختلفة في الاختصاص أخذ وعطاء. هذه الوحدة التي تعمل كمصنع فيه الإنتاج والاختصاص والصيانة، في الوقت نفسه، له دماغ مركزي ووحدة تحكم أولية وكمبيوتر أساسي تعمل في أحدث الأجهزة، بل تتضاءل أمامه أعقد كمبيوترات العصر. فهل سنصل إلى سر السرطان من هذا المفتاح؟