بقلم: خالص جلبي
عندما أراد البعض تعريف السحر قالوا إنه الشيء على غير حقيقته، وعندما وصف القرآن عمل السحرة، ذكر تصورات موسى عليه السلام «خيل إليه من سحرهم أنها تسعى»، فهذا التخيل لشيء ليس له أرضية، يتم من خلال اغتيال العقل بطريقة خفية ومدروسة.
إن الإسلام أراد تحرير الإنسان من فكرة المعجزة وامتيازات الأشخاص جميعا في أي خانة كانوا من عائلة أو حزب أو طبقة أو طائفة أو جنس، وعمد إلى كسر احتكار الكهان والسحرة والعرافين، لإخراج نموذج جديد للإنسان محرر بعقل غير معتقل، ومجتمع توحيدي متجانس بدون طبقات وامتيازات.
إن الدين جاء لمعالجة أعقد مشكلة إنسانية وهي تحريره من الوثنية، ولذا فإن موضوعه الجوهري يتصل بأكثر مشاكل المجتمع إلحاحا، وأن الشرك الذي لا تنفع معه طاعة، وأن التوحيد الذي لا تضر معه معصية، هو في إعلان كلمة السواء (العدل) في المجتمع، فلا يستقل أناس بامتيازات، أو أن يمسخ المجتمع بانقلابه إلى آلهة وعبيد و(مستكبرين ومستضعفين).
هذه القضية أرقت الفلاسفة والمفكرين والسياسيين، وفي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، طرح خروتشوف هذا السؤال المحوري، كيف أمكن لفرد واحد مثل ستالين أن يتحكم في مصير أمة؟ كيف أرسل إلى الموت مئات الآلاف، ولم يقتل واحدا بيده؟ كيف كانت نظرة سيئة منه لعضو في المكتب السياسي، تجعله يرتجف هلعا بقية حياته؟ كما ذكر ذلك «فرانسيس فوكوياما» في كتابه «نهاية التاريخ».
إن كارثة الحكم الفردي، وسيطرة النخب والعائلات والأنظمة الشمولية عرضها «الكتاب الأسود»، للكاتب الفرنسي «ستيفان كورتوا STEPHANE COURTOIS»، الذي صدر في فرنسا، وكيف أن مائتي مليون إنسان أصبحوا ضيوفا على الأبدية على يد حكم الطغاة. ومن هنا فإن قضية الشرك والتوحيد هي لب القضايا الاجتماعية التي يغفر كل ما عداها ولا يغفر ذنبها؛ فهي أهم مشكلة تواجه البشرية على الإطلاق، وبدون حلها تأسن كل الحياة فالتوحيد هو أكسجين الحياة.
واليوم يعيش الجنس البشري في صورة وثنية جديدة، بطبقة امتيازات تضم أصناما تحت (هبل) العالم أمريكا، بقرار الفيتو في صورة شرك أكبر، يعيق ولادة العدل، ومن الطاغوت الأكبر يأخذ بقية طواغيت العالم الصغار شرعيتهم. وأمام العالم ولادة جديدة باتجاه التوحيد، ليس بإضافة أصنام جديدة مصنوعة في فرانكفورت وطوكيو، بتوسيع مجلس اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل بتحطيم نادي الفيتو كله، وإلغاء هذا الشرك العالمي كله جملة وتفصيلا، والعودة إلى التوحيد الذي هو خير وأبقى، بإيجاد عالم جديد عادل متجانس يقوم على (كلمة السواء)، محرر من علاقات القوة، كما وجه تلك الدعوة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم إلى هرقل. ولكن من العجيب أن مثقفي الحداثة من الغرب والشرق كلهم صم بكم عمي عن هذه الوثنية، فهم لا يعقلون.
وفي ضوء الظلمات التي تطوق العالم لمع ضوء غير متوقع من أوروبا في نموذج الوحدة الأوروبية، وعندما كان السلطان العثماني يسأل لماذا لا يزور بلاد الفرنجة في أوروبا، فهناك ما يجب الاطلاع عليه؟ كان جوابه: سلطان المسلمين لا يزور بلاد الكفار إلا فاتحا!
إن حملة فتح فيينا الثالثة عام 1683م العثمانية، عاصرها «إسحاق نيوتن»، حين كان يكتشف قانون الجاذبية ومعادلات الميكانيكا الثلاث ويحلل الضوء في موشور زجاجي. إن سلطان العثمانيين كان يزور بلاد الفرنجة فاتحا، أما قادة تركيا الجدد بمن فيهم مجموعة «أردوغان وجول» المتدينين، يطلبون من أوروبا أن تفتح تركيا، عفوا أن تقبلها عضوا فتنضم إلى الاتحاد الأوروبي. في الوقت الذي ربح «ساركوزي» لعبة الانتخابات، تحت شعار لن نسمح لتركيا بدخول أوروبا، والاقتراب من مراكز الإرهاب في الشرق الأوسط! والجواب عن هذا السؤال البسيط أيضا بسيط، فتركيا تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لأنه بني على (العدل) وليس على الفتوحات العسكرية، سواء العثمانية أو الأوروبية. إن «طيب أردوغان» يقلد الرسول (ص)، حين ذُكر له حلف الفضول، فقال لو دعيت له في الإسلام لأجبت! وحلف الفضول كما تعلمون كان في الجاهلية، ولكنه كان حلفا إنسانيا للدفاع عن المظلومين، ويعود أصله كما جاء في سيرة ابن هشام إلى قصة اعتداء على سيدة في مكة، اغتصبها رجل ظلما، فتداعى الناس إلى نصرتها وتشكل حلف للدفاع عن كل المظلومين، من كل جنس وعرق وقبيلة. في الوقت الذي اغتصب النظام الليبي خمس نسوة لثماني سنوات ظلما، في أسلوب وصفه الطبيب الفلسطيني الحشوش بأنه أمر يندى له الجبين خجلا وعارا، حتى طبق الأوروبيون حلف الفضول، بعد أن ودعناه مع ثقافة الجاهلية التي تسود بلاد العربان، فأُخْرٍجَتِ النسوة المظلومات من فم التنين وهو يقذف نارا، فأحيت أوروبا الفضيلة وحلف الفضول، ونحن أمتنا العدالة، وأحيينا حلف داحس والبسوس والغبراء.. فتعسا لنا، وهنيئا للأوروبيين. والجهاد في الإسلام هو دعوة لإقامة حلف عالمي للدفاع عن الإنسان المظلوم أينما كان ومهما دان، فهذا هو مفهوم الجهاد. وهو أمر يمكن الحديث به في كل منتدى عالمي، وليس كما يزعم المتشددون من إدخال الناس كراهية في الإسلام بقوة السلاح، ألا ساء ما يقولون. والاتحاد الأوروبي الآن بني على تقوى من الله ورضوان، وبالعدل، ليس تحت مدفعية نابليون أو مدرعات غودريان النازي. وأوروبا لم تتحد تحت شعار ألمانيا فوق الجميع، بل ألمانيا مثل الجميع. فاتحدت تحت كلمة السواء، التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: «ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله». إن هتلر حاول السيطرة على أوروبا بالقوة المسلحة ففشل، ومات منتحرا بالرصاص والسيانيد مع عشيقته إيفا براون. أما الاتحاد الأوروبي الحالي، فقد ولد تحت كلمة السواء؛ فألمانيا ليست فوق الجميع، بل ألمانيا مثل الجميع. وهذه الوحدة الأوروبية هي نواة العدل لدمج الجنس البشري، ولعلها من أعظم التجارب الإنسانية نضجا وصدقا وعدلا، وهذا الذي يدعو تركيا أن تسارع للانضمام إلى أسرة المستقبل، حيث العدل يظلل بلوائه الجميع.
نافذة:
أوروبا لم تتحد تحت شعار ألمانيا فوق الجميع بل ألمانيا مثل الجميع فاتحدت تحت كلمة السواء التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل