انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور وفيديوهات للمجمدات الكهربائية المنزلية، وهي ممتلئة عن آخرها بعلب الطماطم المهروسة وقنينات عصير البرتقال، وطبقات من البطبوط والمسمن، والمئات من البريوات والبسطيلة المرصوصة بحذر إلى جانب أكياس بلاستيكية تحتوي على قطع أفوكادو في مراحل التعفن الأولى، أو علبة قصبر ومعدنوس وكرافس في طور الأكسدة.
مشاهد مرعبة للأبوكاليبس الغذائي الذي يعصف بمعظم البيوت المغربية كل سنة. يخيل إليك، وأنت تتصفح قنوات الطبخ قبل شهر رمضان، أنك تشاهد لقطة لـ«هانيبال» و«ديكستر» وهما يتأملان بفخر الأشلاء البشرية المحفوظة بعناية داخل المجمد. أصبحت تحضيرات رمضان في بلادنا عبارة عن جولة في مستودع للأموات، حيث لا شيء يعلو فوق صوت الكونجيلاتور.
من الملاحظ أن التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المغرب، في العقود الأخيرة، ساهمت في تحولات راديكالية في أساليب وفنون العيش لدى المغاربة. إذ ساهم خروج النساء إلى سوق العمل في تعزيز القدرة الشرائية لدى الأسر المغربية، وتحسين سبل الحياة والرفع النسبي من مستوى المعيشة بين العديد من الشرائح الاجتماعية التي كانت تعتمد في الماضي القريب على نظام الدخل الأحادي. غير أن هذه التحولات، وإن كانت إيجابية في مجملها، تحمل بعضا من التغيير الذي ينعكس سلبا على أسلوب حياة الأسرة المغربية النووية، مثلا.
إن ممارسة المرأة لحقها في التعليم والعمل لا تعفيها من الأدوار التقليدية التي ترسخ لها المجتمعات الذكورية، حيث لازالت تروج، بقوة وفي مختلف الأوساط الاجتماعية، فكرة أن التفوق العلمي والوظيفي للنساء لا يشفع لهن أمام عجزهن عن توريق البطبوط أو حشو البسطيلة. أتذكر كيف تحدثت بحماس، وأنا طالبة في الصف الثانوي، عن طموحاتي المستقبلية لأصطدم بتعليق من طرف أحد أفراد العائلة أصر فيه على أن المرأة، مهما بلغت من مناصب علمية مرموقة، عليها إتقان تحضير الطاجين.
أمام مجتمع يطالب نساءه بارتداء عباءة «السوبرومان» للعمل داخل المنزل وخارجه، لم يعد أمام المرأة سوى التحايل على أعبائها المنزلية ومواجهة الضغط الاجتماعي بسلاح الكونجيلاتور الفتاك. فإذا كانت النساء مطالبات في الأحوال العادية بالعمل لثماني ساعات خارج المنزل، ثم العمل لساعات غير محددة داخله، فلك أن تتخيل الفوضى والشد العصبي والضغط النفسي المهول، الذي تعانيه المرأة خلال شهر ينخفض فيه مستوى السكر في الدم وترتفع نسبة الكورتيزول والأدرينالين.
غير أن السباق المسلح نحو الكونجيلاتور خرج عن السيطرة في السنوات الأخيرة، حيث أججت قنوات الطبخ جنون وهوس المجمد وساهمت في انتشار حمى التخزين والتعليب والتصبير. شاهدت فيديو لسيدة عملت على تصبير قطع السردين بداية شهر رجب، حتى تتمكن من استخدامها في رمضان.
صحيح أن التحضيرات المسبقة لاستقبال الشهر الكريم من العادات والتقاليد الأصيلة للمغاربة، لكن يظل الاستعمال المفرط للمجمد أمرا غير صحي تماما. فما جدوى تجميد مكونات الحريرة المغربية من عدس وحمص وطماطم؟ أو تجميد عصائر مليئة بالسكر والما والزغاريت؟ وهل سينقرض الخبز من الأسواق خلال رمضان، حتى نحتفظ بكميات مهولة منه «تعشي دوار»؟.. ماذا سنصنع بالوقت الذي سيوفره علينا اكتناز ألف قطعة من البريوة في المجمد؟ وما ذنب فاكهة الأفوكادو أو الأناناس حتى تكدس تكديسا إلى جانب كيس البصل المفروم، أو عجينة البيتزا المغربية التي ستسبب لنا أزمة ديبلوماسية مع الحكومة الإيطالية عاجلا أو آجلا.
من الملاحظ أن معظم العائلات المغربية لا تحترم القواعد الصحية لتخزين الموائد الغذائية في المجمد، مما ينتج عنه تعفن وفساد العديد من محتويات الكونجيلاتور في غفلة من المستهلك. لا تقتصر هيستيريا التحضيرات الرمضانية المسبقة على التجميد فقط، بل تسبقها حمى التسوق المفرط، حيث تكتظ الأسواق الكبرى بعربات المتسوقين المتصادمة. إذ يخيل إليك أنك في حلبة سباق الفورمولا1. تهافت على أنواع الحليب ومشتقاته، وصراع حول الظفر بأكبر عدد من علب الشعرية الصينية، التي أصبحت حشوة رسمية لأصناف المملحات والأسماك والدجاج والمسمن والخبز، وربما تغدو، في المستقبل القريب، حشوا للمخدات والأسنان أيضا.
لا نملك إلا أن نتساءل كيف نتحول إلى كائنات استهلاكية بشعة خلال شهر روحاني هدفه الأسمى السيطرة على الرغبات والشهوات، وإتقان فن التحكم في النفس الأمارة بالسوء؟ كيف نجحت الرأسمالية في تحويل رمضان من شهر عبادة وصيام وغوص في الذات الإنسانية، إلى شهر يتسابق فيه الناس إلى تخزين العجائن؟ وكيف تحول رمضان من فرصة سنوية لاكتساب عادات غذائية صحية، عبر تخفيف الوجبات والسعرات الحرارية، إلى فرصة لاكتناز اللحوم والشحوم ومراكمة الكوليسترول الثلاثي في أحشاء الكبد والقلب.
أخي المواطن، إن نصف ساعة من الركض التي تخصصها يوميا قبل الإفطار لن تشفع لك بتاتا أمام التهامك لأطنان من المعسلات والمملحات والطواجن وأكواب الرايب المحلى والجيلاتو الصناعي. أختي المواطنة، إن تجميد المأكولات وتجريدها من قيمتها الغذائية يساهم في إبطاء عملية الأيض والزيادة في الوزن، وهو أمر لا يدفع ثمنه سوى الخياط ليلة العيد.