السباحة في الملكوت
بقلم: خالص جلبي
يفكر العلماء اليوم في بناء سفن كونية مستقلة لا تعتمد على الأرض، وهذه السفن المكتفية ذاتيا سوف تخلق الظروف ليتابع البشر حياتهم ويتكاثرون على النحو الذي يرغبون، بحيث ينفصلوا عن الأرض ويصبحوا في أرض مصغرة تنقلهم عبر الملكوت إلى حيث لا يعلمون.
وهي أخطر من رحلة كولومبوس، لأنها رحلة إلى المجهول؛ فكولومبوس أبحر ولشهر واحد في المحيط المجهول، وهذه الرحلة ستمضي لأجيال بدون عودة إلى الأرض. وستكون هذه الرحلة على مراحل.
وهناك لحسن الحظ بين المريخ والمشتري من حزام الكويكبات ما هو أكبر من مساحة الأرض، بأربعة آلاف مرة من خيرات حسان تمد هذه الطليعة البشرية بأسباب الحياة والمعادن والطاقة.
وإلى هنا لم تنته القصة، فأعظم فصولها هي عند الانفكاك من حزام النظام الشمسي والانطلاق إلى فضاء المجرة الهائل، الذي يمتد على قطر 100 ألف سنة ضوئية، ويضم 100 مليار نظام شمسي، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة كاملة وتبلغ 6 ملايين مليون ميل (عشرة مرفوعة إلى 12 صفر)، ولكن قبل الإقدام على هذه القفزة الخطيرة يكون الجنس البشري قد تدرب بما فيه الكفاية على السفن الكونية لمئات السنوات، كما فعل غزاة المحيط عندما كسروا وهم محيط الظلمات في العصور الوسطى، فاكتشفوا الأمريكيتين، وانقلبت محاور العالم بعدها وغادرت الحضارة محيط المتوسط إلى الأطلنطي، وحبس العرب في زنزانة المتوسط، وهذا حديث حضاري تاريخي له مناسبته.
وما سيحصل هو الشيء نفسه مضاعفا، مع القفزة الهائلة الجديدة إلى عمق المجرة، بالإضافة إلى أن تقنيات معرفة (الكواكب) تكون قد تطورت إلى الحد الذي يسمح بتعيين الكواكب التي تدب فيها الحياة، أو تجمع الشروط البيولوجية للحياة أو تطويرها، فعلم الكوسمولوجيا اليوم لم يعد يحدق في النجوم اللامعة المتوهجة زائغ النظرات ينقلب إليه البصر وهو حسير؛ بل طوَّر تقنيات تستطيع اكتشاف كواكب تعكس الضوء، تدور حولها بتقنية العدسات الكونية والمخططات الكوسمولوجية التي تظهر ذرى (جانب نجمية) في ما يعرف بمبدأ عدسة الجاذبية (GRAVITATIONLINSE)، فالضوء إذا جاء من نجم وصادف في طريقه كوكبا كبيرا، فإنه ينحرف ومن دراسة الانحراف نعرف كتلة الكوكب.
واليوم هناك تسابق ما بين وكالة «ناسا» الأمريكية للفضاء، والوكالة الأوربية للفضاء المعروفة باسم (إيسا ESA) لاستعمار الفضاء؛ عند العام 2010 م أرسلت وكالة (إيسا) الأوربية خمسة تلسكوبات تعتمد الأشعة تحت الحمراء، بحيث تشكل باجتماعها حلقة تحديق كونية بقطر 100 متر، هي أقوى من تلسكوب (هابل) الحالي بألف مرة، والأخير منسوب إلى العالم الأمريكي (هابل)، الذي كان أول من اكتشف أمرين في غاية الأهمية (تمدد الكون)، فالكون ليس كما جامدا، بل يزيد في الخلق ما يشاء كما في تعبير القرآن، وأن هناك مجرات أخرى غير مجرة درب التبانة التي نعيش فيها. ومجموعة التلسكوبات هذه تخلق عين عملاقة للرؤية، تستطيع تأمل الكون بنظارة بعد ترى حتى 50 سنة ضوئية.
إن هناك أفكارا لألف سنة ويزيد، فالعلماء يفكرون منذ اليوم في بناء سفن فضائية تقوم برحلات إلى المجهول كما حصل مع جماعات (البولينزين)، الذين اكتشفوا وانتشروا في المحيط الهادي وأنشؤوا حضارة على ما ذكره المؤرخ البريطاني (توينبي)، وقال عنهم إن السبب الذي حرضهم على هذه الرحلة الشاقة، هو عنصر التحدي فقامت أجيال بعد أجيال بغزو المحيط. ويقول إن ما تركوه شيء مذهل أمام الأجيال التالية التي لحقتهم ونسلت منهم، فهم آية في البلادة والغباء. أإنها رحلة التحدي والاستنفار. وكان أمر الله قدرا مقدورا.
ونرجع إلى السفينة الكونية التي يزمع العلماء بناءها، فهم يقدرون أن سرعتها ستكون واحد من عشرة من سرعة الضوء، وهذه السفن الكونية العملاقة ستمشي على نظم خاص من اختراق المجرة من التسارع والفرملة، بحيث تخترق كل 200 سنة مجال 20 سنة ضوئية من الفضاء الممتد، يقطعها خمسة أجيال من البشر، إذا اعتبرنا أن عمر الجيل 40 سنة، وهو ما انتبه إليه ابن خلدون من قصة التيه لموسى مع قومه (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) حتى يخرج جيل جديد حر لا يعرف الاستبداد الفرعوني.
وحسب المعلومات الكوسمولوجية المتوفرة، فإن شروط الحياة توجد على ظهر كواكب تبعد في المتوسط حوالي 14 سنة ضوئية، وأما الكواكب التي تشبه أمنا الأرض فهي تتواجد كل 32 سنة ضوئية، وهذا يعني أن البشرية أمامها استراتيجية ذكية لاختراق المجرات.
هذه الأفكار تشبه الجنون، ولكن رحلة البحارة البولينزيين كانت أجرأ من هذا، فبالسفر على ظهر سفن واهية مفتوحة قام البولينزيون جيلا من بعد جيل بتحدي المحيط الهادي المترامي، بدءا من العام 1500 قبل الميلاد وحتى العام 900 بعده في فترة 2400 سنة، على شكل موجة بشرية تعقبها أخرى لاستيطان المنطقة الوسطى والشرقية من الجزر المتناثرة من جزر المحيط بأشد من نجوم السماء في المجرة، انطلاقا من أرخبيل بسمارك وجزر فيجي تونجا وساموا.
ومن الملفت للنظر أنه خلال 2500 عام كان معدل اختراقهم للجج المحيط هو 100 كيلومتر كل 40 سنة، وكانت موجات التتابع لاستيطان جزر المحيط قفزة كل خمسة أجيال في مدى قرنين؛ فإذا طبقنا هذه الدينامية في الهجرة كان معناه أن انطلاق البشر عبر الملكوت سيتم بخطوات شبيهة من عمل البولينزيين الرائد بمعدل قفزة كل 200 سنة كل خمسة أجيال، بعد التكيف مع الكوكب الجديد الواقع في مرمى 20 سنة ضوئية، تستعمره وتسكن فيه طلائع من البشرية لفترة 2000 سنة؛ لتبدأ الموجة اللاحقة بعد 2200 سنة؛ فإذا علمنا أن قطر المجرة 100 ألف سنة ضوئية، كان معناه استعمار كافة المجرة في 10 ملايين سنة، قبل الانطلاق إلى مجرة أخرى مثل الأندروميدا ذات القطر 150 ألف سنة ضوئية، التي هي أكبر وأرحب من مجرتنا درب التبانة، وفترة 10 ملايين سنة ليست بشيء في تاريخ الأرض، إذا علمنا أن الحياة أصبح لها على وجه الأرض 3800 مليون سنة!
ويخلق ما لا تعلمون.