شوف تشوف

الرأي

السؤال الوجودي الأهم

بقلم: خالص جلبي
عقد مؤتمر تكسون قريبا من الحدود المكسيكية، في تظاهرة علمية ضمت ما يزيد عن عشرين ألف عالم في علوم الأبحاث العصبية وأمراضها، وجراحة الدماغ والأعصاب وعلم النفس والألسنيات والفلاسفة وعلماء البيولوجيا وعلماء المعلوماتية والكمبيوتر، وكانت النتيجة التي خرجوا بها لفهم الوعي الإنساني، أو السؤال الكبير الذي طرح: من يكون أنا؟ بقي بدون إجابة!
ولا يعني هذا أن الإنسان أحجية أو لغز غامض يستعصي على الفهم، ولكنه عالم كامل يتم اكتشافه بالتدريج، ويبقى الجانب الروحي اللامادي فيه (ونفخنا فيه من روحنا) هو لغز الألغاز وسر فهم الإنسان وعقدة الوجود.

هندسة الأخلاق
عندما كتب الفيلسوف الهولندي (سبينوزا ـ SPINOZA) كتابه الثالث الهام (الأخلاق مبرهنة هندسيا) أراد أن يعطي المحتوى الأخلاقي عمقا علميا، فقام يبرهن على جدوى الأخلاق وأهميتها في الحياة الإنسانية رياضيا، كما يبرهن على مسألة رياضية، فبدأت القضية الأخلاقية تدخل حيزا جديدا في التفكير الإنساني.
إذا أرادت المحاولة الفلسفية أن تأخذ بعد التأمل والموعظة، فإن العلم الحديث قام بإقحام القضية بطريقة جديدة، عندما اندلع مرض الإيدز وبدأت فلسفة الطب تتأمل الواقعة في بعد جديد، في معنى الشيوعية الجنسية والشذوذ الجنسي وجدوى الإباحية والخيانة الزوجية، والذي نقل القضية إلى هذا المستوى كان العلم الحديث.

دعوة الأنبياء إلى السلام
نادى الأنبياء بالسلام، ولكن أتباعهم سفكوا الدماء بأسمائهم واعتبروها حروبا مقدسة، وأطول حرب في تاريخ الجنس البشري وأشدها شراسة، وأحفلها بالكوارث والقرابين البشرية، وأشدها دموية، كانت الحروب الصليبية، التي دامت مائتي عام، في سبع حملات عسكرية، قام بها ملوك أوربا الأميين، من طراز ريتشارد قلب الأسد، يقودون عصابات مفلسة وغوغاء جاهلة.
وفي حرب الثلاثين عاما التي نشبت بسبب الصراع الديني (الكاثوليكي ـ البروتستانتي) على الأرض الألمانية بين عامي 1618 ـ 1648 للميلاد، قتل من الشعب الألماني حوالي سبعة ملايين، من أصل تعداد للسكان بلغ 20 مليونا، إلى درجة أن الكنيسة استصدرت قانون (نورمبرغ) الذي أباحت فيه تعدد الزوجات، خلافا لكل تعليمات المسيحية تعويضا للنسل المنقرض.
كل المواعظ الأخلاقية، وتعاليم المصلحين المتواصل، وتأملات الفلاسفة وأطاريحهم الجريئة، مثل أطروحة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت حول السلام الشامل (ZUM EWIGEN FRIEDEN) لم تتقدم فيها البشرية في طريق السلام، بل كانت الحروب تتلاحق على شكل دورات مروعة، تزداد هولا مع كل جولة جديدة، بدموية أكثر، وتطوير سلاح أدق، وقرابين بشرية أعظم.
الذي تقدم في حل مشكلة العنف الإنساني كان العلم، وبدأ الجنس البشري يودع الحرب بشكل تدريجي، فكما استطاعت الدولة باحتكار العنف من الأفراد توفير الأمن لهم مقابل ذلك، فإن الدولة العالمية هي الأمل الذي يسعى إليه الجنس البشري اليوم، من أجل مصادرة العنف بين الدول. والتقدم الذي حققه الجنس البشري كان بواسطة العلم، عندما وصل إلى سقف القوة، وشعر أن الانتحار هو مصير الحرب والقوة والسلاح والعنف وما قرب إليها من قول وعمل، وبذلك تم تدشين موعظة الأنبياء بقاعدة علمية لأول مرة في تاريخ الجنس البشري.
وقد يخفى هذا المعنى لمن لم يتشبع بالوعي التاريخي، والوعي العالمي، وحركة التاريخ، ومعنى العلم، ومصير الثقافة، ولكن ظاهرة السوبرنوفا الموجودة في الكوسمولوجيا، موجودة في الفكر أيضا، فعندما كنا ندرس الفكر في الستينات من القرن العشرين، كان القانون الاحتمالي يطرح علينا، بدون أي رائحة لمصطلح ومفهوم ميكانيكا الكم، مع العلم أن الفلسفة الجديدة تم تطويرها على يد الثلاثي، الألماني فيرنر هايزنبرغ والبريطاني بول ديراك والدانماركي نيلز بور، في العقد الثالث من القرن العشرين (1928)، ولكن هذه الأفكار السلامية التي أطرحها، ستتعرض لظاهرة السوبرنوفا قبل تشرب العقلية العربية بها، بعد أن يكون قد خاض أوقيانوس من الدماء، فعل ما يبدو أن الشعوب لا تستفيد من دروس التاريخ فهي تعيدها بحماقة لا حدود لها، كذلك عدم الاستفادة من درس السلام من روح الحج، التي بدأها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام قبل أربعة آلاف سنة، من أجل إنشاء مثابة للسلام، تصمد كتجربة ناجحة عبر الزمن، بحيث تتحول الكرة الأرضية كلها في النهاية إلى بيت حرام، وتنقلب الأشهر كلها إلى حرام لا يسفك فيها دم الإنسان، ولا تقدم قرابين بشرية في أي صورة من الصور، تحت أي مسوغ أو دعوى أو مبرر أو شعار.

النسبية والخلود
كما أن النسبية أحدثت زلزلة في فهم فكرة الزمن، فلم يعد الزمن وحدات متكافئة تتدفق باضطراد في مفاصل الكون، بل تحول الزمن إلى نسيج هش ممزق مفكك الأوصال، فلم يعد الزمن على ظهر كوكب كآخر، وليس هو في القمر مثل المشتري، ولا في مجرتنا مثل مجرة الأندروميدا أو مجرة المرأة المسلسلة. فالزمن يتوقف على السرعة التي نحلق بها، كذلك الكوكب الذي نستقر عليه، فإذا تسارعت الحركة انضغط الزمن، وإذا انتفخ المكان وعظم قصرت عقارب الساعة، حتى إذا وصلت السرعة إلى ما يطير به الضوء توقف الزمن. وإذا عظم جرم الكوكب الذي نضع أقدامنا عليه، إلى حجم خرافي، تباطأت حركة الساعة فتوقفت في النهاية، وتوقف الزمن عمليا هو التفسير غير المباشر للدخول في الخلود، وذلك من خلال السرعة والكتلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى