شوف تشوف

الرأي

الزِّر

«أحلم بالمثقف هدام القناعات والبديهيات العمومية. أحلم بالمثقف الذي يستكشف في عطالة الحاضر وإكراهاته نقاط الضعف والشقوق وخطوط القوة. أحلم بالمثقف الذي يتحرك باستمرار، دون توقف، غير عارف أين سيصبح غدا، ولا بماذا سيفكر غدا، لأنه شديد الالتصاق بالحاضر»، ميشيل فوكو.
انتظرَتْ قليلا قبل أن تفتح بوابة العمارة، كانت تسترق النظر إلى ظله خلفها، يكاد يسبق خطواتها المتسارعة. كانت تعلم ما الذي تخفيه تلك الابتسامة كما لم تكن تجد أية صعوبة في قراءة رسائل نظراته المشفرة. لقد أيقنت مع مرور الأيام أنه كان يتعمد تكرار نفس الابتسامة والنظرات وذات النبرة والحديث لكي لا تطفو ملامح الوجه الآخر، كان غموضه بالنسبة إليها لازمة تحميه مما قد يقع فجأة أمام امرأة عاشقة للمفاجآت.
قصدَتْ باب المصعد دون أن تشعل النور بمدخل العمارة، فتحَتْ حقيبة يدها، وعمدَتْ إلى إلقاء محتوياتها على الأرض، وعوض أن تضغط على زر المصعد؛ انحنَتْ للمِّ شتاتها وإعطاء انطلاقة حقيقية لمشهدٍ طالما اجتهد خيالُها في تطريز أحداثه، لكنها تؤمن دائما بأن الواقع أبرع بكثير من أوراش الخيال في صنع المفاجأة والإثارة.
ودون تفكير أو شعور، وجدَتْ نفسها ترمق أزرار قميصها بنظرةٍ فيها من الغنج والغواية ما يخفي دهشتها، وهي تحاور الذي يسكن بداخلها:
– ماذا لو فتحْتُ الزر العلوي لهذا القميص؟ هل بإمكاني أن أفسح المجال لبعض الإثارة؟ أو على الأقل أن أغير ذلك السيناريو المعتاد أثناء كل مصادفة بباب المصعد، كأن أجعل تلك العيون النائمة تصحو من سباتها القديم وتلمع في هذا الظلام.. أو يبوح ذاك الصوت الجهوري ببعض الدرر من عذب الكلام، فأنا في أمس الحاجة إلى ذلك، يمنحني الدفء والوثوق بالنفس ويذكرني بحضوري الأنثوي الباذخ فوق هذه الأرض.. لا مجال للتردد والتفكير أو الاحتكام إلى العقل، فقمة العقل في مثل هذه المواقف، تقضي بأن نتملك أمورا قبل أن نتجاوزها، وأنا في أتم الاستعداد لكي أتملك لحظتي هذه، فربما كانت بداية تغيير في حياتي وبداية قلب كل الموازين..
– صحيح، وربما كانت بداية النهاية!
– النهاية؟! عن أية نهاية تتحدث؟ سئمت النهايات واعتدت عليها؛ لم أعدْ أشعرُ بوخزها، لم تعد تؤلمني.. بالعكس أتفاءل بالنهايات لأنها مؤشر لبدايات جديدة، وأنا امرأة متجددة في كل شيء، أيقنت منذ مدة أن ما يصطلح عليه بـ «حشومة» و»عيب» ليس إلا ضربا من ضروب الخيبة والفشل، وبأن الجرأة مبدأ يعكس القدرة على الفعل والثقة بالنفس وتحدي المقولات المتوارثة، التي صار مكانها الطبيعي أرشيف الماضي المتخلى عنه. الجرأة تصنع الإثارة، والغرابة تبحث عن المستحيلِ لتحيله ممكنا، وتؤثث الفراغ بأشياء من لا شيء.
– لا أفهمكِ؛ ولكنك تستبقين المراحل، لماذا ترمين أوراقك كاملة؟..
– وكأنك تتحدث عن صفقة أو مقايضة.. أنا لا أقايض بشيء، ثم إن المسألة بسيطة، لا تعدو أن تكون فتح زر قميصٍ وليس فتحا جديدا للأندلس… لا تحاولْ لقد قررت.. أنا من سيصنع الحدث هذه المرة..
(يتبع…)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى