شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

الزواج والطلاق قبل أكثر من 3 قرون

الحروب «الباردة» المغربية لتعليم البنات وإنصاف المرأة

«إن البنت ليست بأفعى أولا، الفقيه، ولا يمكن أن نقبل أن تكونوا أنتم وهؤلاء ونحن أبناء أفاعي! من البنات أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا! وعلى فرض أن الفتاة كذلك، فإننا نعتقد أن العلم ما كان ولا يمكن أن يكون سُما، ولكنه على العكس من ذلك ترياق يحفظ من السموم..».

الكلام هنا للملك الراحل محمد الخامس تماما كما نقله عنه المؤرخ عبد الهادي التازي، الذي كان حاضرا لقاء داخل القصر الملكي، في أكتوبر 1943.

استقبل خلاله السلطان محمد بن يوسف بعضا من العلماء والفقهاء، وأثيرت في حضرته مسألة تعليم البنات، وعندما لمس معارضة أحد الحاضرين الذي شبه النساء بالأفاعي، لم يدع السلطان الراحل المسألة تمر أمامه، خصوصا وأنه كان في أربعينيات القرن الماضي يقود «حربا» إصلاحية ضد الأعراف المجحفة في حق النساء المغربيات.

يونس جنوحي

 

 

هكذا دافع أبو شعيب الدكالي ومولاي العربي العلوي عن المرأة قبل قرن

الباحثة المغربية نجاة المريني، واحدة من الباحثات المغربيات اللواتي أغنين البحث الأكاديمي في شقه التاريخي والعِلمي في ما يتعلق بحقوق المرأة. هذه السيدة تقول إن كلا من العالم الجليل أبي شعيب الدكالي، الذي توفي سنة 1937، ومحمد بن العربي العلوي الذي واكب استقلال المغرب وشارك في النقاش السياسي مع بداية الستينيات من القرن الماضي، هما رمزا التشجيع على تعليم البنات وإنصاف النساء في المجتمع المغربي. وهذان العالمان الجليلان هما معا بإجماع المؤرخين المغاربة، مؤسسا السلفية المغربية.

الأول، جال في الشرق وتفوق على علماء مصر في قلب جامع الأزهر، وأصبح إماما للحرم الملكي قبل 1907، وعاد إلى المغرب لكي يصبح قاضي القضاة في عهد السلطان محمد بن يوسف. والثاني هو الفقيه العربي العلوي الذي قاد حركة إصلاحية في قلب الحركة الوطنية المغربية، ودافع باستماتة عن الاعتدال المغربي في عز معاناة المجتمع المغربي من تبعات الوجود الفرنسي بين المغاربة منذ 1912.

المعركة التي خاضها هذان الاثنان لم تكن سهلة، بل تعرضا خلالها لقوى ممانعة محلية مصدرها بعض علماء القرويين الذين كانوا متمسكين بالأفكار القديمة، سيما في الفترة التي سبقت معاهدة الحماية. أما في ظل الوجود الفرنسي، فقد تساقطت رموز الممانعة على كل ما هو عصري وأجنبي، واحد تلو الآخر. والدليل أن العلماء الذين أفتوا بتحريم استعمال السيارات والكهرباء وجهاز الهاتف، بل وحتى شرب الشاي، تراجعوا في الأخير عن كل تلك الفتاوى عندما تعرفوا على معالم الحياة العصرية.

تقول الباحثة نجاة المريني في إطار شرح سياق الإصلاحات المجتمعة التي همت المرأة المغربية على يد رموز الحركة الوطنية:

«هذا الانبهار بالحرية، وبالسلطة المقيدة بالقانون في الدول الغربية دعا المصلحين في الحركة الوطنية إلى التمسك أكثر بالشريعة الإسلامية في صفائها وطهرها، باعتبارها محققة للعدل والمساواة والحرية، فكانت مواقفهم مرتكزة أساسا على وجوب التغلب على مظاهر انحطاطهم بتغيير واقع مجتمعاتهم الذي يكرس الحجر على الفكر، والاستبداد بالسلطة، وترسيخ الجهل والمعتقدات الفاسدة.
فهل كانت الدعوة إلى الإصلاح منبرا للدعوة إلى إصلاح أحوال المرأة المغربية، والنظر في شؤونها لتحريرها وتخليصها من الجمود والتحجر والخوف؟ في ظرف عصيب يستدعي توحيد الرأي والخطة والعمل في الأوساط العلمية والشعبية والرسمية لمقاومة المد الاستعماري وتحرير البلاد من سلطته، خاصة بعد صدور الظهير البربري في 16 ماي 1930م، الهادف إلى تمزيق وحدة البلاد المغربية وتفكيكها، والقضاء على العمل بالأحكام الشرعية الإسلامية في القبائل البربرية.
لم يقف المغاربة أمام هذا العمل الإجرامي مكتوفي الأيدي، وإنما قاوموا بكل الوسائل، وبكل ما لديهم من الإمكانيات المعنوية والمادية، وأكدوا للمستعمر قوتهم ووحدتهم وقدرتهم على حربه من خلال الأعمال الكبيرة التي قاموا بها في التوعية عن طريق الصحافة والأدب، وعن طريق المعركة والكفاح المسلح، تلهب حماسهم مرتكزات الفكر الإصلاحي السلفي، وآراء المفكرين اليقظين الداعية إلى التحرير والإصلاح، وإلى رفض المستعمر».

تقول د. نجاة المريني إن المسار الذي بدأه أبو شعيب الدكالي وشيخ الإسلام العربي العلوي، تواصل مع علال الفاسي ومحمد الحجوي باعتبارهما نموذجين في الفكر الإصلاحي المغربي. وكلاهما ساهما في نشر الأفكار الإصلاحية، من خلال منشورات الحركة الوطنية، والتي دعيا فيها إلى إنصاف المرأة المغربية وضرورة طي بعض الأعراف القديمة، التي تحط من قدر النساء ولم يكن لها أي تأصيل فقهي أو شرعي.

 

المغربيات كن يرفعن الشكاوى للسلاطين لإنصافهن

المولى إسماعيل الذي يعتبر أحد أقوى السلاطين الذين حكموا الدولة العلوية (امتد حكمه من سنة 1672 إلى سنة 1727) وأشهر مؤسسيها الأوائل، ورغم كل ما كُتب في المراجع التاريخية المغربية والأجنبية عن قوته وتشدده مع عماله وحتى أبنائه في أمور الدولة، فإن أشهر قصص التاريخ المغربي عن نجاح النساء في تدبير الحياة العامة، كانت في عهده.

يتعلق الأمر بشخصية المرأة المغربية خناتة بنت بكار التي تزوجها السلطان المولى إسماعيل، لما سمع عنها من علم وتفوق وشخصية قوية، وتفوقها على الرجال.

عندما تزوجها المولى إسماعيل، وضع بين يديها صلاحيات واسعة، ولم يكن من مبالغات التاريخ أنها كانت تعطي التعليمات للوزراء وتناقش العلماء وتتفصل معهم في الأمور والنوازل الفقهية، وتُبهر مُجالسيها بإلمامها بالأمور الشرعية.

خناتة بن بكار، ساهمت بشكل كبير في إنصاف المرأة، حتى أنها اشتهرت باستدعاء القضاة والأعيان الذين يبلغ إلى علمها ظلمهم للنساء، لتشرع في مناقشتهم بالحجة والدليل.

ومن بين الأمور غير المعروفة عن خناتة بنت بكار أنها مارست وظيفة الوزارة، ولم يكن بينها وبين زوجها المولى إسماعيل أي حجاب. بل كانت تأتي إليه بالنساء المظلومات، خصوصا في ما يتعلق بالميراث والحقوق الزوجية بعد الطلاق، وكان ينصفهن في حضرة زوجته.

وجاء في عدد من المصادر المغربية أن خناتة بنت بكار لم تكن في البداية مرشحة لتصبح زوجة للمولى إسماعيل، وإنما كان مخططا أن تدخل إلى جناح الحريم، مع الفتيات اللواتي يتم استقدامهن لخدمة السلطان مع حريم القصر الملكي في مكناس.

لكن نباهتها وخطابتها وسعة علمها، كانت عوامل جعلت اسمها يُذكر عند السلطان، ويضعها في المكانة التي تليق بها.

خناتة بنت بكار، كان والدها أحد أشهر شيوخ عصره، ولعب دورا كبيرا في تكوينها العلمي، خصوصا وأنها كانت تحفظ القرآن الكريم وفق القراءات السبع ونهلت من العلوم الشرعية، مما جعلها تخوض في السياسة في عهد زوجها، وهو ما جعل منها أول امرأة مسلمة تنال الوزارة في التاريخ، وتخصصت في علم الحديث. وبعد وفاة المولى إسماعيل سنة 1727، تفرغت للتصوف، وزهدت في الدنيا والناس، وعاشت بعده ثلاث سنوات فقط، لتختم مسار حياتها الذي بدأته باقتحام مجال العلوم الشرعية الذي كان حكرا على الشيوخ، وتقود حربا إصلاحية حقيقية في المغرب لإنصاف النساء.

مر ما يقارب قرنين على وفاة المولى إسماعيل، ليأتي سلطان آخر هو المولى سليمان، ويصبح عهده محطة انفتاح على العلوم الشرعية وانبعاث للتشريع المغربي. حيث أشرف هذا السلطان العالم، بحكم إلمامه بالعلوم الشرعية، على قيادة واحدة من أوائل التجارب الإصلاحية وسن قوانين تنصف النساء، سيما في ما يتعلق بالزواج والطلاق والميراث. وقد كان هذا السلطان يخصص يوما في الأسبوع، بحسب ما جاء في عدد من المصادر التاريخية، لسماع شكاوى النساء، ولم يكن يتساهل مع الأزواج الذين يهضمون حقوق زوجاتهم، خصوصا بعد الطلاق.

ثم جاء عهد المولى الحسن الأول، الذي أجرى واحدا من أهم الإصلاحات القضائية، حيث أعلن ثورة في تعيينات القضاة في المدن والبوادي. وبعد وفاته سنة 1894، بدأت تلوح في الأفق بوادر التدخل الأجنبي في المغرب، لتصبح القوانين اللاحقة متأثرة بالإصلاحات والتوصيات الأجنبية، ثم بعد ذلك لتبدأ الحركة الوطنية المغربية ثورة حقيقية في المجال.

++++++++++++++++++++

 

مؤسسو السلفية المغربية لم يُعارضوا حقوق المرأة في عهد مولاي سليمان

لم يختلف المؤرخون المغاربة كثيرا حول الطريقة التي وصلت بها السلفية المشرقية إلى المغرب. وهناك إجماع أنها ظهرت مع السلطان المولى سليمان الذي حكم المغرب ما بين سنتي 1792 و1822، وعُرف بعلمه الغزير ودخوله في نقاشات فكرية مع العلماء المغاربة.

فقد كتب عدد من الباحثين المغاربة عن هذه العملية التي نقلت أفكار السلفية إلى المغرب، ومنهم من اعتبر أن المغاربة لم يكونوا في حاجة إلى التأثر بالمشرق في بعض التفاصيل المرتبطة بالعلوم الشرعية، بل ساعدتهم في تقبل «الصحوة» الفكرية التي انتشرت في العالم العربي، ووصلت إلى المغرب مع الحجاج المغاربة العائدين من رحلات الحج.

يقول المؤرخ المغربي د. الحسن السائح، الذي كان أحد أوائل من أرخوا لتأسيس الحركة الوطنية المغربية على يد رموز السلفية المغربية، إن الحركة السلفية المغربية كان عليها أن تكون أوسع من القومية العربية. وعزا هذا المؤرخ في مقالة له كتبها سنة 1957، سر تفوق السلفيين المغاربة، إلى وجود الأرضية العلمية في المغرب، في ظل أسماء مغربية أمثال أبي شعيب الدكالي، الذي تعامل مع أكبر رموز السلفية المشرقية «ندا لند».

ويشرح الحسن السائح هذا السياق المغربي قائلا: «لقد عرف المغرب الحركة السلفية، لما حمل الحجاج دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى المولى سليمان الذي أعجب بها وحاول نشرها بالمغرب، فألف رسائله الإصلاحية، وأنشأ خطبة أمر الخطباء بقراءتها على المنابر، ويحدثنا الزياني والناصري عن هذه الحركة بإسهاب لا محل لذكره هنا، ثم جاء عبد الله السنوسي من الشرق وكان أثريا سلفيا، واتصل بالمولى الحسن وحضر بنفسه دروسه بفاس، وكان السنوسي يدعو إلى إصلاح العقيدة وفتح باب الاجتهاد والأخذ بالسلفية، ولما كانت دعوته أقوى من عصره ثار العلماء في وجه دعوته ورشقوه بسهام النقد … وما كاد الشيخ محمد عبده يرفع عقيرته بهذه الدعوة في الشرق، حتى كان لها صدى في المغرب، وتلهف المصلحون على ما كان ينشره ويذيعه من كتب، رغم وطأة الرقابة، وأخيرا عزم الشيخ الإمام على زيارة المغرب، ولكن المنية عاجلته.

وجاء بعد هؤلاء محدث خطير ومصلح كبير وهو الشيخ أبو شعيب الدكالي الذي عاصر محمد عبده، وأظن أنه اتصل به اتصال الأنداد، وكان أن بدأ حركته السلفية في عهد المولى عبد الحفيظ، وساعدته ذاكرته القوية وحافظته الجبارة ولهجته المتناسقة على أن يخلب الألباب ويحير الأسماع، فنجح نجاحا منقطع النظير وتبوأ منصب القيادة العاطفية والزعامة الدينية في هذه البلاد».

في عهد المولى سليمان، كانت هناك نساء مغربيات، منهن زوجات علماء وبنات عائلات مغربية عريقة في العلم، لم يمنعن من التعلم. حتى أن هناك من المتنورين من ذهب إلى القول إن الدافع الأول لعدم تدريس المغاربة لبناتهم، قبل قرون خلت، كان هو الفقر وليس أي دافع اجتماعي آخر. والدليل أن علماء عاشوا في عهد المولى سليمان وبعده، لم يعارضوا تعليم البنات، رغم انتشار الأفكار المحافظة التي تحيط تعليم البنات بكثير من التعقيدات.

 

 

عندما وبخ محمد الخامس مُعترضا على تعليم البنات سنة 1943

من جملة ما كتبه المؤرخ والدبلوماسي عبد الهادي التازي، في أوراق مذكراته، ما يتعلق بعدد المرات التي التقى خلالها السلطان محمد بن يوسف، في مراحل متفرقة من حياته. هذه اللقاءات التي حضرها التازي في القصر الملكي، انطلقت في فترة مبكرة من حياته، وهو شاب يتلمس طريقه في القرويين، قبل أن يعتنق البحث العلمي والمسؤوليات الدبلوماسية.

بعد وفاة المؤرخ عبد الهادي التازي، عملت أسرته على جمع ما تفرق من أوراق مشاهداته، والملاحظات التي لم يدونها في عدد من مؤلفاته، وعملت على نشرها في إطار منشورات وأنشطة المؤسسة التي تحمل اسمه. ومن جملة المذكرات التي رأت النور بفضل هذا الحرص العائلي على صيانة تاريخ عبد الهادي التازي، هذه الورقة المقتطفة من مقال مطول جمع فيه عبد الهادي التازي السياق المرتبط بكل واحدة من المرات، التي حضر فيها استقبالا عند السلطان محمد بن يوسف. وقد جاء في هذه الورقة:

«2 أكتوبر 1943: الرباط

ما كانت البنت أفعى

وما كان العلم سما!

أما هذا اللقاء فقد تم بالرباط صبيحة يوم ثاني عيد الفكر 1362 الموافق لثاني أكتوبر 1943، وقد حضر استقبال التهنئة هذه كثير من الناس ممن لم يسبق لهم أن كانوا يحضرون وقد عرفنا سر هذا التجمع، عندما توجه جلالته بالخطاب لهذه الوفود، مظهرا اهتمامه بتثقيف الفتاة المغربية… وقد كان رحمه الله خطب، قبل ثلاثة أشهر، وعلى سبيل التحديد يوم 25 جمادى الثانية 1362؛ 28 يونيو 1943، أمام محراب جامعة القرويين، مناديا بضرورة دخول الفتاة المغربية معركة البناء!

لقد خاطب جلالته الوفود في لهجته المحببة يحض الآباء على توجيه فتياتهم إلى المدارس من أجل التثقيف في حدود الشريعة السمحة» قائلا: إنه «بالتعليم تحيا الأمة وبانتشاره ترتقي وتبلغ أوج الكمال»، وقد أشار رحمه الله إلى الظهير الشريف الذي كان يعتزم إصداره في الموضوع، مهيبا بكل العناصر الطيبة أن تعمل على النهوض بالبلاد…

وأذكر جيدا أن الصالة رددت بعض الهمهمات كان منها همس قد نفذ إلى مسامع جلالة الملك العظيم من بعض الأفاضل، الذين عرفت في ما بعد أنه مقدم زاوية. حرض جلالته على أن يعرف ما يدور بخلد الرجل، فردد هذا في بسالة وهو يبتسم: (أفعى ونسقيها سما؟) يعني أن النساء عرفن سلفا بما به يعرفن فكيف تشجعهن؟! وعندما كان أحد الحاضرين ممن يجاوره يحاول الرد على المقدم، تلطف جلالته وتولى هو الإجابة: «إن البنت ليست بأفعى أولا، الفقيه، ولا يمكن أن نقبل أن تكونوا أنتم وهؤلاء ونحن أبناء أفاعي! من البنات أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا! وعلى فرض أن الفتاة كذلك فإننا نعتقد أن العلم ما كان ولا يمكن أن يكون سُما، ولكنه على العكس من ذلك هو ترياق يحفظ من السموم…». وسرعان ما أذعن الرجل قائلا: نعم نعم يا سيدي، الله يحفظك، وهنا قال جلالته مؤانسا للمقدم: إذن ستدخل بناتك إلى المدرسة! فهوى على أطراف جلالته بالتقبيل وهو يقول: (عندي حفيدات، ولكني سأساعد على إدخالهن المدرسة).

 

حين رصد صحافي بريطاني زواج المغاربة وطلاقهم في القرن 19

يتعلق الأمر هنا بالصحافي الشهير والتر هاريس، في كتابه «The Land of an African Sultan»، أو ما يمكن أن نُترجمه هنا، «بلاد سلطان إفريقي». ويقصد والتر هاريس بالسلطان، المولى الحسن الأول، الذي كُتب هذا الكتاب في عهده، أي قبل وفاته سنة 1894.

في هذه المذكرات التي سجل فيها والتر هاريس يومياته أثناء تنقله من طنجة إلى القصر الملكي في فاس، مرافقا لوزير بريطاني جاء في مهمة إلى المغرب خلال عهد الملكة فيكتوريا، رصد طقوس زواج المغاربة وطلاقهم. بل لم يفته في هذه المذكرات، التي نشرت «الأخبار» ترجمة حصرية لها في سلسلة حلقات، هذا العام، أن يشير إلى أن بعض التقاليد والأعراف المغربية، خصوصا في القوانين التي تنظم الحياة اليومية، تبقى أفضل من القوانين البريطانية، وأشاد بتحريم الخمر، وربط بين تحريمه وانخفاض الجريمة. وتناول أيضا مسألة زواج المغاربة وطلاقهم، وكتب في هذا الباب:

«عندما تنتهي مرحلة الدراسة، يبدأ الصبي في التفكير في الزواج، وهو ما يتم عادة عندما يصل سن ما بين الثانية عشرة والسادس عشرة. ورغم أن المفترض ألا يرى العريس عروسه قبل الزفاف، إلا أنه عادة ما يتمكن من رؤيتها، عن طريق الاختباء في غرفة عندما تدعو والدته العروس المرشحة لزيارتها في البيت.

يبعثُ الشاب الراغب في الزواج صديقا إلى والد الفتاة. وهذا الصديق يُعلن أن فلانا يرغب في الزواج من ابنته فُلانة. ثم يسأل الأب الأم، والتي تسأل بدورها الفتاة، ونادرا ما ترفض الأخيرة عرض الزواج. وإن هي رفضت، فلن يكون قرارها فعالا على الأرجح.

ثم بعد ذلك يسأل الأب المبعوث عن المبلغ المالي الذي سوف يدفعه صديقه، والذي يتحدد بالدرجة الأولى اعتمادا على الظروف المادية للطرفين معا، حيث يدفع بعض الرجال ما يعادل دولارا واحدا فقط أو أقل. وبعضهم يدفعون ما يعادل خمسين أو ستين جنيها. المفترض أن يُستعمل هذا المبلغ في دفع مصاريف الجهاز، واحتفالات الزفاف، وأيضا لتخفيف حزن الوالدين قليلا جراء فراق ابنتهما.

يُسمح لأي رجل، بنص القرآن، الزواج من أربع زوجات، لكن عدد الإماء المسموح باتخاذهن، لم يُحدد، وبعض المغاربة الأكثر ثراء، يحتفظون بعدد هائل من الحريم. إلا أن القاعدة الأكثر انتشارا بين الطبقات الدنيا والمتوسطة في المجتمع، هي اتخاذ زوجة واحدة فقط، دون إماء. وفي الحقيقة، وباستثناء منازل الرجال الأثرياء، فإنه من النادر جدا أن تجد أكثر من امرأة واحدة في المنزل.

لا تستفيد الفتاة من أي فرصة للدراسة، ولا تتعلم سوى التطريز وصنع الحلويات. لكن إذا كانت الفتاة قروية، فإنه يتوجب عليها أن تعمل بجد في جلب الماء من الآبار، أو طحن الذرة في الرحى اليدوية. ولا حاجة هنا لكي أصف الجزء المتعلق بها في احتفالات الزواج، كما فعلتُ عندما وصفت حياة الرجل المغربي.

بعد الزواج، تُحبس في قسم الحريم، وإذا كان زوجها رجلا ذا مكانة وجاه، فإنها لا تخرج من منزلها أبدا.

لكن إذا كان الزوج يعيش في قرية، فإن مهامها في العمل اليومي، تكون في انتظارها سلفا».

رسم هاريس صورة سوداوية عن الزواج والطلاق في المغرب، فقد وصف المغاربة بأنهم لا يثقون في زوجاتهم، وربط بين تواري الحريم عن الأنظار وبين عدم ثقة الأزواج فيهن.

لكن هاريس الذي كتب هذا الكلام قبل 1894، لم يكن يعرف المغرب وقتها جيدا. واختلفت كتاباته كثيرا عندما استقر في المغرب نهائيا وقضى به سنوات طويلة، ودفن فيه في أربعينيات القرن الماضي. ففي الكتابات التي تلت تجربة الكتابة عن فترة حكم المولى الحسن الأول، فهم والتر هاريس بعض الأمور المرتبطة بالشريعة الإسلامية، وأدرك أن حياة المغاربة لم تكن بذلك التعقيد الذي رسمه عنها في كتاباته المبكرة.

 

 

زواج المغاربة وطلاقهم.. ملامح المحكمة المغربية قبل الاستقلال

المحاكم المغربية العصرية أسست على يد الفرنسيين، حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها. بينما حل المغاربة الأقدمون مشاكلهم وخلافاتهم ونظموا عقودهم، في منازل القواد ومجالس العلماء. أما في القرى فقد كانت الأسواق الأسبوعية منذ قرون خلت، مكانا لحل النزاعات، من ملكيات الأراضي إلى اقتسام الإرث، وصولا إلى عقود الزواج والطلاق.

أحد الباحثين الأجانب الذين وثقوا للمحاكم المغربية وطريقة عملها قبل الاستقلال، وبالضبط سنة 1952، هو الكاتب البريطاني الشهير برنارد نيومان في واحدة من رحلاته الاستكشافية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي زار فيها المغرب.

جاء في كتابه «Morocco Today»:

«لقد رأينا الباشا في المدينة، أو القائد في المنطقة القروية، وقد اختاره السلطان بناء على اللائحة القصيرة التي اقترحها الفرنسيون، عادة بعد مفاوضات مالية مناسبة، وبمساعدة من الضابط الفرنسي في المحاكم.

سلطاتُ هذا الأخير كانت محدودة. بإمكانه تقديم المشورة إذا طُلب منه ذلك، لكن إذا لم تُطلب منه، فإنه يستطيع الاحتفاظ بما يعتقد أنه حُكم سيئ، لكي يستأنفه لدى المحكمة العليا في الرباط.

عمليا، فإن هذا النظام يشتغل جيدا، بصورة كافية، عندما يتعلق الأمر بقضايا الإجرام. ثم يعمل الباشا أو القائد، فعليا على أساس أنهم قُضاة مختصون في القضايا التي تنطوي على عقوبات تصل إلى السجن لمدة عامين. بينما القضايا الأخرى كلها تذهب إلى الرباط.

ليس من الضروري توفر معرفة كبيرة بالقانون. الفطرة السليمة كافية لإعطاء قرار بشأن اعتبار رجل ما مُذنبا. ويستطيع الضابط الفرنسي توفير ظروف عادلة لطرفي الادعاء والدفاع.

قضيتُ يوما في المحكمة الجديدة، أو دار القضاء في الدار البيضاء.

البناية جديدة ويعكس بناؤها نوعا من الترف، صممها مهندس فرنسي، وتولى الحرفيون المحليون زخرفتها. والنتيجة كانت مذهلة.

باشا الدار البيضاء هو المسؤول عن المحكمة. وهو أحد أبناء المقري، الذي كان الوزير الكبير في المغرب لسنوات طويلة. وهو أيضا صهر الكلاوي، باشا مراكش.

هو نفسه يجلس في منصبه مرة كل أسبوعين، ولبقية أيام الأسبوع، ينوب عنه خلفاؤه.

الخْليفة في المحكمة الجنائية، ابن أخيه. كان القسم العام من المحكمة ممتلئا جيدا بالتعيينات. وعلى الرغم من أن الإجراء يبدو غير رسمي، إلا أنه بدا شاملا كفاية.

يقف السجناء والشهود في الصف أمام الخْليفة وزملائه الفرنسيين. المحامون كانوا يتجولون في المكان بأزياء أمريكية بدلا من الزي البريطاني».

يقول السيد نيومان إنه انتقل أيضا إلى نموذج المحاكم العصرية، وشاهد بعينيه عملية تدريب القضاة العصريين، لكي يكونوا مؤهلين للتعامل مع القضايا وفق القوانين العصرية، بحضور محامين فرنسيين، في قضايا أطرافها مغاربة، أو واحد من طرفيها على الأقل.

يقول السيد نيومان إن الزواج والطلاق في تلك الفترة كان متداولا في المحاكم المغربية التي لم يشملها نظام التحديث الفرنسي. وبما أن نيومان زار القرى والمدن في مختلف جهات المغرب، فقد كانت الخلاصة التي خرج بها تفيد بأن الطلاق والزواج بقيا حصرا في اختصاصات الفقهاء والعدول، وهذه السلطة الدينية كانت وحدها تبت في قضايا من هذا النوع، ولذلك بالضبط ألحق الفقهاء ببعض المحاكم لتوثيق الزواج والطلاق. وبهذا الخصوص يقول نيومان: «وكما أشرتُ سابقا، فإن المحاكم التي توجد ضمن نطاق سريان حكم الشريعة القرآنية، يكون النظر في القضايا داخلها، من قِبل القضاة.

وهؤلاء القضاة يُعينون مباشرة من طرف السلطان، بدون أي تدخل فرنسي. جلسات المحاكمات التي يشرفون عليها تُعقد عادة في المساجد أو قُربها.

كل القضايا الخاصة بالنزاع حول الميراث أو نزاعات الزواج، تُحال عليهم. باستثناء المناطق الأمازيغية، حيث اجتماع القبيلة أو «الجْماعة» تحل محلهم».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى