الريسوني: كنت أسعد بالبقاء وحيدا وأنا طفل والشرفاء كانت لديهم لعنة «العمى»
ترجمة حصرية لمذكرات المغامِرة البريطانية روزيتا فوربس (12)
يونس جنوحي:
واصل الريسوني الحديث بصوت جهوري منبعث من حلقه:
«-ذات مرة، عندما كنت صبيا، كنت أركب الحصان بمعية أحد كبار الشرفاء، وعندما وصلنا إلى ضواحي قرية من القرى، كان هناك رجل ممد في ظل شجرة زيتون. كان الجو حارا، ولم يقم هذا الرجل بأي فوضى أو حركة لتحية المارين المسافرين من تلك الطريق. أوقف الشريف الذي كان معي حصانه، وسأل الرجل عن السبب. ليرد عليه:
-إن الشمس يا سيدي تعمي عينيّ، ولم أركم.
رد عليه الشريف:
-بما أنك لا تستعمل عينيك فأنت لا تحتاجهما. ومن تلك اللحظة صار الرجل أعمى.
قيل أيضا إن أحد إخوة السلطان، وكان في أحد سجون الرباط بعدما قام بثورة ضد أخيه الحاكم، حاول الهرب من السجن بمساعدة من أصدقائه الذين فتحوا له الطريق للهروب. وقف حارس أمام الباب وحاول إيقافه حسب ما يقتضيه واجبه. فقال له أخ السلطان مهددا:
-إذا لم تسمح لي بالخروج من الباب فإنك سوف تكمل ما تبقى من حياتك أعمى.
تردد الحارس، لكنه كان يعرف أن رأسه سوف تقطع إذا تمكن السجين من الهروب. لذلك بقي واقفا مكرها أمام الباب لإغلاق الطريق.
فقال له أخ السلطان:
-حسنا، سوف تصير أعمى.
وسقط الحارس أرضا، مغطيا وجهه بكلتا يديه، لأنه لم يكن قادرا على رؤية أي شيء».
عمت لحظة صمت، وبعدها همس العبد مبارك:
-هذه أمور يعرفها الجميع جيدا. كل الرجال الذين خالفوا أوامر سيدي فقدوا بصرهم.
أكد المترجم الإسباني كلامه قائلا:
-نعم. إنها الحقيقة. فقدوا فعلا أبصارهم، لكن بضغط قطع النقود المعدنية الساخنة جدا فوق أعينهم، وليس بالمعجزات.
سألتُ الريسوني عن عمره:
«-كم يبلغ عمري؟ أستطيع إخبارك أنني ولدت حسب التقويم الهجري سنة.. (الموافق لـ1871 ميلادية). لكن بماذا يهم عدد أرقام سنوات عمري؟ لا يوجد مغربي يحرص على حساب الوقت. اسألي العبد مبارك كم عمره.
فرد العبد محاولا إرضاء سيده:
-عمري هو ما يريده سيدي. ربما عشرة، إحدى عشرة، ربما.. أو ثلاثون.
واصل الشريف الحديث:
-ولدتُ في «زينات». لقد رأيتِ القرية. كانت المنازل صغيرة بأسقف عالية جدا. كانت هناك حدود بين المنازل بأشجار الصبار الشوكي. حتى الكلاب لم تكن قادرة على اختراقها أو المرور عبرها. المكان الوحيد الذي يمكن منه رؤية القرية كاملة كان هو أعلى قمة الجبل حيث يجلس حامل البندقية للتصويب.
كنت أجلس في القمة لساعات أتأمل القرية. لم تكن التلال مثل ما هي عليه الآن. بل كانت بساطا ذهبيا من محصول الذرة.
كنت أرى من قمة الجبل النساء وهن يجمعن المحاصيل في الحقول، وأتخيل صوت صياحهن من الألم عندما يتعرضن لوخز الأشواك الحادة مثل الإبر.
كن يتخذن من قطع ثوب الحايك غطاء ينشرنه فوق عمود، للوقاية من أشعة شمس الظهيرة القائظة. ولاحقا، عندما يصبح الجو ألطف، كن يجلسن مجتمعات على شكل دائرة ويضربن الذرة مع قطع خشبية لعزل الحبوب المتساقطة. كنت أستطيع سماع غنائهن. وأرى الأطفال بعيدا يستحمون في النهر، لكني لم أرغب أبدا في أن أكون معهم. كنت أكثر سعادة لوحدي.
في الأفق كانت تظهر لي هضاب بني مزوار، وهي القبيلة التي جاءت منها والدتي. وكنت أتساءل دائما لماذا كان الآخرون سعداء بالعمل في الحقل، بينما كانت خلفهم بلاد شاسعة جدا من الأراضي المليئة بالصخور والوديان، حيث كان بإمكانهم ممارسة الصيد كل يوم في مكان مختلف. إنها أفكار طفل!
عندما كان عمري عشرة أو أحد عشر عاما، كنت طالب علم، وكنت أعرف القراءة والكتابة، وأحفظ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا السبب، كان هناك عالم جاء إلى قريتنا، مهتما جدا بي وكان يخبرني أمورا كثيرة.
كنت أراقب حصانه وأحرسه لكي أبقى معه وقتا أطول وأستمع إلى حكاياته. كانت لديه موهبة الحديث وكان يستطيع إضحاك الرجال إلى أن يسقطوا أرضا. وقررت أن أقلده، فجمعت أصدقائي أيضا، وعدد منهم كانوا أكبر مني سنا، وقمنا بجولة بين القرى ونحن نحمل راية بيضاء لكي نجمع المال للعالِم الذي كان فقيرا جدا شأنه شأن الرجال الحكماء».