يونس جنوحي
توقف الشريف عن الحديث للاستراحة لدقيقة. دخل العبد متسللا إلى الداخل وقبّل كمّ الشريف ملامسا إياه بشفتيه فقط.
مهما كانت الرسالة مهمة، فإن العبد كان يهمس دائما في أذن المعني بها مباشرة فقط، ولم يكن الهمس مسموعا لأي شخص آخر في المجلس.
خاطبني المترجم الإسباني متمتما:
-ربما يتعلق الأمر بامرأة تريد شيئا ما، لأن هذا العبد من عبيد جناح الحريم.
لكن العبد لم يتلق أي اهتمام من طرف الشريف، باستثناء تمتمة خفيفة:
–في ما بعد.. أنا مشغول.
وقال لنا:
«إذا أخبرتَ أحدا ما بما تفكر فيه، فإنك سوف تفقد السيطرة عليه ولن يبقى أبدا من أتباعك. لكن كان لدي صديق كان بمثابة أخ لي. إسباني، واسمه «زوگاسطي» وكان قنصلا في العرائش. أوروبا لم تحظ أبدا بآخر مثله. كنت أنفذ كل ما يقوله لي لأن روحه كانت مثل المرآة وكل أفكاره كانت خيّرة. كانت لديه شجاعة الأسد، لكنه كان يتجول في البلاد بدون سلاح لأنه كان دائما يردد:
-يجب على إسبانيا أن تُقنع الشعب من خلال تصرفاتها وأفعالها، لا أن تقنعهم بقوة البارود والرصاص.
في إحدى المرات كانت هناك باخرة محملة بالخراطيش ترسو عند مصب نهر اللوكوس. كان الجو حارا، ولم يكن أحد يرغب في العمل. كان أفراد الطاقم نائمين فوق سطح السفينة. في البداية، لم ينتبه الرجال النائمون على الشاطئ إلى الدخان المنبعث من مدخنتها، ثم بدا لاحقا أنها تحترق. خاف الجميع، فقد يحدث انفجار ضخم وقد تتضرر منه المدينة أيضا.
استيقظ أفراد الطاقم، لكنهم لم يكونوا قادرين على إطفاء النار.
كان «زوگاسطي» مارا بمحاذاة المكان على اليابسة عندما سمع الصراخ، ولما علم بما يقع، أخذ مسدس أحد رجال الشرطة وقفز إلى أول زورق يراه، وأجبر الرجال بالقوة على التجديف في اتجاه السفينة. مجيئه كان إنقاذا لحياة الطاقم، امتثلوا لأوامره وقاموا بإغراق السفينة. وبينما كان الناس يتوقعون في أية لحظة أن يسمعوا دوي الانفجار، قام بإرسال البحارة إلى الشاطئ، لكنه كان آخر رجل يغادر ووراءه كانت مياه البحر تخمد ألسنة النيران.
والله إن «زوگاسطي» رجل يستحق الاحترام! المغاربة كانوا ينادونه «النصراني الشريف»، ولم يكن ليكسب «دورو» واحدا ويهربه خارج البلاد. لقد جاء إلى العرائش وهو أغنى بكثير مما كان عليه عندما غادرها. كان عمره وقتها ثلاثين أو أربعين سنة، لكن كانت لديه حكمة تفوق سنوات عمره. لقد درس شريعة الإسلام وعادات المسلمين، وكان يتحدث اللغة العربية أفضل مني.
لقد أخبرت هذا الرجل الذي كان بمثابة أخي، ببعض ما كنت أفكر فيه، لأن اقتراب الفرنسيين من بلادي كان ظاهرا مثل الشمس في واضحة النهار.
في نواحي القْصْرْ، أقمتُ مْحلّة قوامها خمسمائة رجل، كان يترأسهم القايد بوعزة الملسوني. وكانت هذه المْحلة تراقب دائما تقدم فرنسا وتوغلها. كنت أعلم أنه سوف تكون هناك حرب في القريب. وعندها، لا قدّر الله، سوف نخسر، لأن فرنسا لا تتراجع أبدا. لذلك استشرتُ مع «زوگاسطي»، ومع وزيركم أيضا، السيد «ليستر»، واعتقدتُ أن الإسبان أقوياء كفاية لمساعدتنا، لكنهم لم يكونوا أقوياء إلى درجة أن يبطشوا بنا.
ذات ليلة جاء إليّ «زوگاسطي». كان مغمورا بالوحل والعرق يتصبب منه ويخترق عينيه. كان حصانه واقفا في الساحة حيث تركه، وكان الموت يظهر في عينيه.
كان أحد أعدائي، وهو من قادة بني عروس، اعتقل حامد بن مالك وابنيه معه وسجنهم في منزله بمصمودة. سلبهم بغالهم وأحصنتهم وكل ممتلكاتهم، وهدد بقتلهم إذا لم يؤدَّ إليه مبلغ فديتهم. طلب 24 ألف دولار وعددا من الخيام والأسلحة.
إن حامد بن مالك يوجد الآن تحت حماية إسبانيا شأنه شأن عدد من تجار العرائش والقْصْر.
في تلك الأيام، عندما يرغب رجل في الإفلات من العقاب العادل بسبب أفعاله، فإنه يضع نفسه تحت حماية إحدى القوى الأوربية».
قاطعتُ الريسوني وأنا أغمغم:
-.. تماما كما فعلت أنت يا سيدي بعد إلقائك القبض على ماكلين.
فأجابني الشريف في ذهول:
«والله إن لسانكِ حاد مثل السيف..
قال لي «زوگاسطي»:
-إذا كانت هذه الأمور مسموحا بها، فإنها سوف تؤثر سلبا على شرف حكومة بلادي.
لكنني كنت مسرورا لوقوع هذا الحادث، لأنني كنت أتساءل كيف سوف أدخل قوات إسبانيا إلى البلاد، وأية ذريعة سأقدمها للناس. لذلك أجبتُه:
-انتظر لبضعة أيام وكل ما تُريده سأنفذه».
نافذة: والله إن «زوگاسطي» رجل يستحق الاحترام المغاربة كانوا ينادونه «النصراني الشريف» ولم يكن ليكسب «دورو» واحدا ويهربه خارج البلاد لقد جاء إلى العرائش وهو أغنى بكثير مما كان عليه عندما غادرها