الريسوني كان خطيبا مفوها وهكذا بدأ حربه ضد «المخزن»
ترجمة حصرية لمذكرات المغامِرة البريطانية روزيتا فوربس(17)
يونس جنوحي
كان الريسوني يحكي هذه القصص بوجه جامد لا يبدو عليه أي تأثر أو مشاعر، حتى نبرة صوته لم تكن تتأثر بحشرجة.
إحدى أجمل الخصال في العرب، حتى لو كان الرجل شيخا عالِما، تكون في شخصيته لمسة طفولية. ابتسامة الشريف يعلوها بعض الحزن، وعندما يبتسم فكأنه يفتح لك طريقا نحو قلبه.
لديه ثقة كبيرة في أنه شخص مقبول. كان يفتخر بنفسه بطريقة تشبه تصرفات الأطفال ومزاجهم. حركات جسده تختلف دائما عن نبرة الصوت التي تصاحبها. نادرا ما كان الريسوني يتحرك أو يشير بيديه لأحد وهو يتحدث. عندما كان يتحدث لي عن قصة حياته، لم تصدر عنه أي ابتسامة نهائيا.
كان صوته هادئا وناعما. كلماته كانت مفعمة بالحياة. شخصيته كانت قوية ومميزة إلى درجة أن طريقته في الحكي تجعلك عندما تسمع كلامه، وكأنك تنظر إلى صور من حياته التقطها بنفسه.
عندما كان يتحدث عن مرحلة طفولته في القرية، كان يتحدث كما لو أن طفلا يروي لك عن مغامراته، دون أن يكون هناك أي تدخل لشخصيته بصفته شريفا وزعيما لقومه.
عندما كان يحكي لي قصة حياته، لم يكن لدي أي اهتمام بهذه التفاصيل. كنت داخل خيمتي، أتكئ على كومة من الوسائد الصلبة المحشوة محليا، وأكتفي بالتحديق في السور الذي يطوق تجمع منازل الريسوني، وأشرع في تخيل أشجار الزيتون والتين التي كان يحكي عنها في قرية بني مسرار، والحشود التي تصارع معها وتبادل مع رجالها إطلاق النار.
فهمتُ أيضا أن العرب والإسبان كانوا يتقاسمون نفس موهبة الكلام والحكي. لكني لم أعرف أبدا إن كان الشريف فعلا يُصدق بنفسه كل ما كان يُخبرني به.
اتباع قومه له وإيمانهم به، والفانتازيا التي تحيط بشخصيته والمعجزات، وقواه الخارقة وعجز الأسلحة عن إصابته. لكني لم أعرف أبدا إلى أي مدى كان يستعمل الشريف تلك المعتقدات لأغراضه الخاصة.
قال الشريف ذات مرة:
–«من الأفضل أن تكذب على أن تكون فظا».
وقال أيضا:
–«إذا فصلت رجلا عن معتقداته التي يؤمن بها، فلن تكون لديه أرض ليقف فوقها».
الاستعارات والبلاغة تحظى بتقدير كبير لدى العرب. ومعركة الكلام لا تقل خطورة عندهم عن معارك السلاح.
كانت تُعقد مجالس للمبارزات الكلامية بين الخطباء، لتحديد أفضل من يجادل ويقدر على الإقناع. وقد رأيت بدويا يجلس على الأرض تائها ومضطربا بينما كان أحد الخطباء يهجو قبيلته أمامه. وعندما انتهى الخطيب من الكلام، قال له البدوي:
–«لم أفهم كلمة واحدة مما قلته، لكن والله إن لغتك العربية جيدة».
كان الريسوني لا يزال يخبرني عن حرب العصابات التي خاضها ضد جيش السلطان مولاي الحسن، ويحكي كيف كانت تلك الحرب ضرورية بالنسبة له لكي يكسب صداقة زعيم قبيلة ما. وقال لي:
«إنه لم يكن عدوي، لكن العلاقات بيني وبينه كانت متذبذبة.
ذهبت إليه ذات مساء بعد غروب الشمس. وطلبتُ «ضيف الله»، وكان مُرغما، بموجب هذا العُرف، أن يقدم لي الطعام.
في تلك الليلة، أكلنا ولم نتحدث عن أي شيء. لكن في الصباح الموالي، بعد صلاة الفجر، جلسنا تحت شجرة أمام منزله، وتحدثت معه لسبع ساعات. كان هذا خطابي الأول.
عندما حل موعد صلاة الظهر، قام إلى الصلاة، وبعد ذلك كان يريد أن يأكل. لكني قلت له:
-هناك حديث آخر أريد أن أخوضه معك. وبقيت أتكلم إلى أن حان موعد الغروب. ولا أحد منا نحن الاثنان انتبه إلى أن الظلام قد حل.
أصبح صديقا لي بعد كل هذا. أصبحنا حليفين، ودعمني في الحرب ضد «المخزن».