شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الرهانات الخاسرة

 

 

أحمد مصطفى

 

على اعتبار أن الخطأ أمر بشري طبيعي، فوارد أن يحدث ولا يعد مشكلة، طالما أن المرء قادر على تجاوزه والتعلم منه للمستقبل. كذلك الفشل في ما نخطط له ونسعى إلى تحقيقه، لا يجوز أن يكون سببا في اليأس أو الانسحاب التام، بل كم من فشل أعقبه نجاح باهر. ويعرف الدارسون في مجال العلوم والعاملون في البحث العلمي أن الأخطاء – طالما غير مقصودة ولا ناجمة عن جهل – تفيد، وأن الفشل مقدمة للنجاح.

أتصور أن ذلك ينطبق أيضا على بقية نشاطات البشر، ومنها السياسة وإدارة الأمور في الجماعات البشرية على مستوياتها المختلفة. إنما المشكلة في الخطأ الذي كان ممكنا تفاديه، والفشل الذي سببه سوء التصرف. ولعل عدم الكفاءة والمعرفة من أكثر أسباب الخطأ والفشل شيوعا.

كل هذه بديهيات لا تحتاج إلى التذكير بها، لكن هناك مما يحدث حولنا في الحياة العامة ما يستدعي فعلا التذكير بالبديهيات، علنا نتفادى الأخطاء ونتجنب الفشل. ففي النهاية، لا يضر الخطأ بمرتكبه فقط، بل قد يتجاوزه إلى غيره. حتى الفشل الذي قد يبدو أن تبعاته تعود على صاحبه، فإنه في العمل العام تعود تلك التبعات على كثيرين.

كل تلك المقدمة للتعليق على الرهانات الخاسرة التي أصبحت أقرب للنمط السائد في المجازفات، ليس من قبل السياسيين فحسب، بل وحتى من الاقتصاديين وصناع السياسات المالية والنقدية. وقد رأينا الأمثلة الواضحة على ذلك منذ أزمة وباء كورونا وما بعدها، وأكثرها في العامين الأخيرين. وكأننا تجاهلنا تماما ما تعلمه البشر بالتجربة من أن التشخيص الصحيح نصف العلاج، وأوله الاعتراف بأن هناك علة.

في تاريخنا الحديث والمعاصر لم ينجح بلد إلا من أدرك واعترف لنفسه بأنه يتراجع ولديه مشكلة، أيا كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية من ألمانيا إلى اليابان، مرورا بالصين وغيرها. فالخطأ الأكبر أن تكابر ولا ترى المشاكل، بينما هي «تسد عين الشمس». أما أن تحاول إيجاد شماعة، أو إلقاء التبعة على غيرك، فهذا ينسف أهم عنصر في التشخيص الصحيح. ولعل أكثر الأمثلة جلاء حاليا على ذلك، السياسة البريطانية في السنوات الأخيرة. فلم يعد فيها سوى إلقاء اللوم على الآخرين ومحاولة تبرير الخطأ، إلى حد اعتبار الفشل إنجازا بانتهازية مقيتة. ولا يقتصر الأمر هنا على شخص أو عدة أشخاص، بل إن أغلب الطبقة السياسية البريطانية راهنت مثلا على الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وتثبت الوقائع العملية يوميا أن ذلك كان رهانا خاسرا.

الأمثلة كثيرة، ولعل حرب أوكرانيا مثال آخر. فقد راهنت كييف على أن أمريكا والغرب لن يتركوا روسيا تدخل بقواتها شرق وجنوب البلاد، وتضم تلك المناطق إليها. وكان رهانا خاسرا لا تقتصر تبعاته على عدم تحقق المأمول والمتوقع، بل ما زالت تلك التبعات مستمرة ويعاني منها أكثر طرفا الحرب المباشرين. أما من تمت المراهنة عليهم فيبدو أنهم راغبون في استمرار الصراع، لتحقيق أهداف أخرى غير ما تريده كييف أو موسكو. وإن كانت تلك الأهداف لا تبدو رهانا رابحا هي الأخرى حتى الآن، وتسبب أضرارا أكبر بكثير حتى من أي فوائد استراتيجية محتملة.

إنما المثير حقا هو الرهانات الخاسرة في المجالات التي يفترض أنها أكثر تحديدا من أمور السياسة، التي كلها احتمالات وتغيرات يصعب التكهن بها. ذلك ما حدث في الاقتصاد في أغلب دول العالم مع أزمة وباء كورونا، ومستمر حتى الآن. ففي البداية كان رهان صانعي السياسات الاقتصادية والأسواق وشركات الاستشارات، أن الركود نتيجة الإغلاق في عام 2020 هو إجراء «مفتعل»، وبالتالي ستزول آثاره بسرعة بمجرد إلغاء القيود وفتح الاقتصاد. بل إن التوقعات كانت بقفزة نمو هائلة بعد توقف قسري ضغطا.

ما حدث، أن النمو لم ينتعش بذلك القدر، ولا حتى عاد تماما إلى ما كان عليه قبل الوباء حين لم يكن الاقتصاد العالمي في وضع جيد تماما، باستثناء بعض الاقتصادات الصاعدة. ليس هذا فحسب، بل إن الجميع، وتحديدا البنوك المركزية، توقع أن ارتفاع التضخم ما هو إلا «عملية ارتداد» نتيجة ركود الإغلاق، وبالتالي فهو مؤقت جدا. وما حدث أن التضخم واصل الارتفاع وبمعدلات لم تكن متوقعة واستقر واستمر.

لعل المشكلة تكمن أساسا في تجاهل البديهيات، ومنها أنك لا تستخدم المدخلات ذاتها وتتوقع نتائج مختلفة – هذا رهان خاسر مقدما. فالعالم لا يريد الاعتراف بأنه أمام أزمة حقيقية واستثنائية، في السياسة والاقتصاد وحتى في الثقافة. لذا، فأي علاج لأعراض الأزمة، هو عملية ترقيع كلما تكررت وتعددت أصبحت لا تستر. وفي الوقت نفسه نتجاهل المرض الذي يسبب العرض ونراهن على أنه سيشفى وحده، باعتبار أن «الطبيعة غالبا ما تجد طريقها بنفسها».

ذلك غير طبيعي، وأول العلاج ألا تلجأ إلى استخدام النماذج والقواعد ذاتها في التطبيق على وضع استثنائي وتنتظر أن تأتي النتائج «كما الكتاب». فبعد ثلاثة عقود من انهيار النظام ثنائي القطبية بعد نهاية الحرب الباردة، والعالم في مرحلة «ميوعة»، تفرض وضعا استثنائيا لا ينطبق عليه الكثير مما هو تقليدي. لكننا نواصل الرهانات الخاسرة ولا نتعلم كثيرا من أخطائنا وفشلنا، بل حتى نتجاهل البديهيات.

نافذة:

بعد نهاية الحرب الباردة والعالم في مرحلة «ميوعة» تفرض وضعا استثنائيا لا ينطبق عليه الكثير مما هو تقليدي لكننا نواصل الرهانات الخاسرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى