الرسم والتشكيل الاستشراقي في خدمة الهيمنة الغربية
حميد لشهب
يعتبر فن الرسم لغة كونية قابلة للفهم من الجميع. وبما أنه لغة، فإنه يلعب دور التواصل مع الآخر على مستوى ميتالغوي. ومن هذه الزاوية يمكن اعتبار فن الرسم جزءا من الاستشراق الغربي.
خدم «الفنان المستشرق» دولته ووطنه وقومه، قصد المساهمة في بناء «رأي عام» غير بريء، في الدول الغربية والدول المحتلة. ومن واجبنا، كأبناء أجيال عرفت الاستعمار المباشر لبلداننا أن نعري عن تلك الوظائف في الوقت الراهن، لنفهم ما يحاك ضد أمتنا وديننا وشعوبنا، خاصة وأن فن الرسم وصل حاليا إلى منعطف خطير، هدفه الأول والأخير هو النيل من المسلمين كبشر وإذلالهم والسخرية منهم ومن مقدساتهم وحشرهم في خانة الإرهاب، باسم «حرية التعبير» و«استقلال الإبداع» و«حياده».
تتضمن الكثير من «اللوحات الاستشراقية» تلك العين التجسسية، التي تلتقط تفاصيل بعينها بدقة كبيرة، مختبئة تحت غطاء «الافتتان» بجمال الشرق وسحره ومناظره الغريبة الفاتنة، التي تفتح شهية «الإبداع». عمل الفنان والرسام المستشرق على توثيق للواقع، خدمة للسلطات الإدارية والعسكرية للدولة المُستعمِرة.
لجأ التشكيلي والرسام المستشرق إلى تقنيات تحاكي الواقع، دون تجريد أو تعقيد، طلبا في أن تكون الرسالة واضحة. كان الرسامون يعيشون لمدة معينة بين أهالي المستعمرات، موهمين إياهم بأنهم «شبعوا» من الحضارة الغربية/الفرنسية ويبحثون عن بديل. قاسموا الأهالي حياتهم البسيطة، ليوهموهم بأنهم أصبحوا منهم، للنجاح في التغلغل لفهم طريقة تفكيرهم وتصورهم للعالم المحيط بهم.
مسح سيميائي- إيكونوغرافي بسيط للوحات الاستشراقية يوضح بما فيه الكفاية، أنها كانت قادرة على تأدية أكثر من مهمة. فلكي توقظ رغبة من يريد «الهجرة» إلى الدول المُستعمَرة، والعيش كنبيل في بلاد «الأوباش» و«الزنوج» و«المتوحشين»، في محيط طبيعي هادئ، جميل، دافئ؛ عمل التشكيلي المستشرق على تقديم رسوم ولوحات في هذا الاتجاه. واللوحات نفسها كانت توهم المتلقي في الضفة الأخرى لأوربا، بأن الرسام والفنان يمجد بلده وأسلوب حياته وثقافته وروحانياته.
أما اللوحات التي تمثل المرأة في المستعمرات، وبالخصوص المسلمة، فإن وظيفتها مختلفة تماما: تقدم نساء المسلمين كموضوع إيروتيكي للمرسَلِ إليهم الغربيين، بالتركيز على مفاتنها الجسدية وتعريتها تقريبا، وإيهام الغربي بأن «اللحم» العربي- المسلم مستباح ومتوفر، في حين تستعمل مثل هذه اللوحات، كإهانة للرجل المسلم والمس بشرفه. يعني في آخر المطاف المساهمة المباشرة في المس بكرامة المرأة العربية المسلمة، واعتبارها موضوع لذة فقط. واللجوء إلى هذه الاستراتيجية هو عمل واع، لأن المستشرق كان يعرف أن شرف المسلم هو الحفاظ على خصوصياته في ما يتعلق بالمرأة.
لوحات عري المسلمات تهدم أخلاقيات المسلمين، بتقديم المرأة المسلمة كمومس لا غير. فإذا كان الجيش الفرنسي قد هدم كل الأسوار العاتية لمقاومة المسلمين له، فإن تشكيلييه ورساميه هدموا الأسوار العالية لحياة المسلمين الحميمية، وعروهم أمام الملأ وأذلوهم، بتقديم نسائهم كراقصات، متبرجات، نصف عاريات إلخ.
لا نفاجأ بعمق الجرح الذي تسببت فيه الكاريكاتورات الأخيرة للمسلم الفرنسي، وللمسلم أينما كان. فبقدر ما كانت اللوحات والرسوم الاستشراقية في عمقها الدلالي مسيئة للمسلمين، بقدر ما كان الاستمرار في توظيف هذه الإساءة عنوة ومباشرة للنيل من عالم تمثلات المسلم لذاته ولدينه. لم يبق للفرنسي بالخصوص أي موضوع يمكنه جرح مشاعر المسلم به، من غير مهاجمة نبيه الأمي. والسلاح متوسط وطويل المدى للمسلم في «نضاله» ضد مثل هذه الهجمات الرخيصة والمتوحشة، هو تحليه بروح الهدوء والرد على الإساءة بإظهار نواياها الحقيقية، وليس بالرد العنيف أو السقوط في دور الضحية. ولعمري أن مهمة مثل هذا الرد هي على عاتق النخبة العربية المسلمة، التي من واجبها استغلال أدوات هؤلاء المستشرقين أنفسهم، للرد على مصائدهم. فإذا كانوا مقتنعين بضرورة خدمة أوطانهم بكل الوسائل الممكنة، فلماذا لا يكون هذا حقا للمفكر العربي والمسلم أيضا؟ فأغلبية أكاديميينا يضبطون بما فيه الكفاية تقنيات «العلوم الإنسانية الغربية»، وهذا الضبط كفيل للرد على من يحاول «مسح» الإنسان المسلم، فقط لأنه مسلم ولأنه يشكل «خطرا» في الوعي الجمعي الغربي.