الرسائل
نجاة حمص
لا أعرف كيف سيكون الحب حبا دون رسائل غرامية، دون ذلك الجهد المضني وأنت تحاول ترجمة أحاسيسك ومشاعرك إلى كلمات، دون ذلك الشوق الذي يتقد بالفؤاد كالجمر، بانتظار الجواب، ودون تلك الابتسامة الحالمة، الولهة، وأنت تتلقى الرد الكتابي القلبي..
عندما تحدثني إحداهن عن عندليبها الأسمر، عن قصة حبها، عن حبيبها، عن وسامته ومهنته وشهاداته، عن أمه المتوفاة، وأخته الكبرى التي تقطن بزيمبابوي، والصغرى التي رماها القدر بساحل العاج، صراحة لا أهتم بكل ذلك، بقدر ما أهتم بموضوع الرسائل: هل يراسلها طوال اليوم؟ هل هي رسائل عربية أم عرنسية؟ هل كان يراسلها صباحا أم مساء؟ أم يركنها ولا يتذكرها إلا ليلا؟..
مسكينة تلك الفتاة التي لا تتلقى رسالة صباحية تتمنى لها يوما سعيدا، ولا رسالة وقت الظهيرة، في أوج الدوام وذروة العمل، عندما يكون الحبيب غارقا وسط الملفات والمكالمات والاجتماعات. فالحب هو ذلك الخصاص والنقص الذي تشعر به الروح، ذلك الفعل الذي يسبق التفكير، ذلك الشغف الذي لا يعترف بالعوائق والأعذار، وتلك الأحرف الأربعة التي تترجم كل ذلك، فتظهر على شاشة الحبيبة: «أحبك»..
تعيسة هي تلك التي تتلقى «slm»، «cv»، «cc»، «slt bb»، حزمة وكتلة من النفايات الفكرية واللغوية، تجعلك تشعر برغبة في قتل المرسل وزيارة «العاذر» أو«عين قادوس»، ومجرمة هي تلك التي تتلقى كل هذا العفن وتبتسم ثم ترد، ظنا منها أنها سعاد حسني، وصاحب السوابق ذاك هو شكري سرحان..
الرسالة التي يجب عليك أن تفرح بتوصلك بها، هي تلك الرسالة المطولة، المفصلة، العميقة، تلك التي تجعلك تعيد قراءتها أكثر من مرة، وكل مرة وكأنك تقرؤها لأول مرة.. تلك التي كتبت من القلب، فتصل بسهولة لتدغدغ قلبك، فيفتر ثغرك عن ابتسامة رغما عنك.
وللوقت دور كبير في ترجمة موقعك ومكانك في قلب المرسل، فتلك التي لا تصلك إلا في منتصف الليل، دلالة على أن الطرف الآخر لا يتذكرك إلا عندما لا يجد ما يفعله، عندما ينهي كل أعماله، عندما ينتهي من كل المكالمات المهمة، ويسأل ويرد على الأشخاص الذين لهم الأولوية القصوى والأهمية الكبرى، عندما يفتح التلفاز فلا يجد أي برنامج جدير بالمتابعة، ولا أي فيلم يستحق المشاهدة.. ينهض ويتوجه للثلاجة، يبحث عن شيء ليأكله، يضع كل شيء على الطاولة، ثم يبدأ في الافتراس، حتى إذا شبع وارتوى، وارتمى على فراشه كمن دهسته للتو شاحنة، وأول ما تشبع البطن، تقول قلة الأدب ارقصي، فيبدأ منسوبها في الارتفاع، ويشرع هو في كتابة تلك الرسالة الإفريقية الشهيرة «توحشتك»، يحدد «كل الأرقام» ثم يرسل، عندها تتوصل الفتاة بتلك الرسالة الخفاشية الليلية..
لا أهمية للرسالة إذا لم يكن وقت إرسالها وقت انشغال، مما يجعل المتلقي يشعر بأنه جزء من انشغالاتك، كما لا معنى للحب المعتمد اعتمادا كليا على المكالمات الهاتفية، أو اللقاءات الشاعرية، فأحيانا لا نستطيع أن نقول كل شيء، ننسى بعض الكلمات، تتوه عنا بعض المفردات، وأحيانا، وبكل بساطة، لا نجد ما نقول، حتى إذا ذهب كل لحال سبيله، تذكرنا كلاما كان يجب أن يقال، تذكرنا جمالا كان يجب أن يطرى، ملامح كان يجب أن تتأمل، ومشاعر كان يجب أن يفصح عنها، فنحمل لهفتنا وشوقنا.. ثم نكتب.