الرجوع لله أ الرفيق
بعد صوم طويل عن الكلام تفتقت عبقرية الرفيق الحسين الوردي وزير الصحة السابق عن إعجاز علمي خارق عندما كشف أن مجموع اعتمادات وزارة الصحة المغربية يعادل ميزانية مستشفى مارسيليا الفرنسي.
طبيعي أن تعادل مجموع اعتمادات وزارة الصحة المغربية ميزانية مستشفى فرنسي، فمعدل الدخل القومي الفرنسي يضاعف نظيره المغربي 23 مرة.
وقد كان أجدر بالسي الحسين لو طرح هذا السؤال على نفسه عندما كان وزيرًا يتقاضى سبعة ملايين ويكلف خزينة الدولة عشرة ملايين شهريا، في الوقت الذي يتقاضى فيه نظيره وزير الصحة الفرنسي 14 ألف أورو في الشهر.
فكيف كان يتفهم الوردي وهو وزير للصحة أن يتقاضى راتبا قريبا من راتب وزير فرنسي للصحة رغم أن معدل الدخل القومي للمغرب أقل بـ23 مرة من نظيره الفرنسي؟
وهذه الأيام يروج الحديث عن عريضة للمطالبة بخفض رواتب الوزراء والبرلمانيين، خصوصا في هذه الظروف الصعبة التي تجتازها بلادنا، وبالموازاة مع ذلك راج خبر إعداد الحكومة لمرسوم الزيادة في تعويضات الوزراء، وهو الخبر الذي انتشر مؤخرا على منصات التواصل الاجتماعي وكذبه وزير الدولة المصطفى الرميد.
جميل أن ينفي وزير الدولة إشاعة مرسوم الزيادة في تعويضات الوزراء لكن الأجمل منه كان سيكون إعلانه تخليهم، على الأقل، عن مليون ونصف التي يتقاضونها كتعويض عن السكن والتدفئة والأواني الفضية وتعويضات “التمثيل” الذي يمثلونه على الشعب.
ولكي نفهم أن وزراءنا ومسؤولينا العموميين يتقاضون رواتب أكثر مما يستحقون علينا أن نحتكم إلى شيء اسمه الناتج الداخلي الخام، فهذا المقياس عند الاقتصاديين هو الثروة الحقيقية التي ينتجها كل بلد في الداخل خلال سنة واحدة.
وبالنسبة إلى بلد فقير كالمغرب فإن مستوى الناتج الداخلي الخام لسنة 2018 مثلًا عندما كان الوردي وزيرًا للصحة لم يتعد 110 ملايير دولار. أما في فرنسا التي يحلو لهم عندنا تقليدها في كل شيء، فقد وصل ناتجها الداخلي الخام إلى 2900 مليار دولار برسم سنة 2018، هذا يعني أن فرنسا خلقت ثروات 26 مرة أكثر مما خلقها المغرب، بمعنى أن فرنسا أغنى من المغرب بخمسة وعشرين مرة.
طبعا، سيقول قائل إن الناتج الداخلي الخام تتحكم فيه أيضا كثافة السكان. فكلما كان عدد السكان مرتفعا كلما ارتفع الناتج الداخلي الخام. ولذلك اخترع الاقتصاديون منطقا آخر لحساب ثروة الدول، وهو تقسيم مجموع الناتج الداخلي الخام على كل مواطن، وهكذا نحصل في النهاية على الناتج الداخلي الخام لكل مواطن. ببساطة شديدة، نعرف كم ينتج كل مواطن سنويا من ثروة.
في المغرب، وصل الناتج الداخلي الخام لكل مواطن إلى 3000 دولار في مقابل 40000 دولار لكل مواطن فرنسي، علما بأن عدد سكان فرنسا يضاعف عدد سكان المغرب. بعبارة أخرى، فالمواطن الفرنسي أغنى من نظيره المغربي بمعدل 13 مرة.
وما دام مسؤولونا لا يكفون عن التسبيح بحمد فرنسا بمناسبة وبدونها، فليسمحوا لنا بعقد جملة من المقارنات البسيطة، والتي ستفهمون من خلالها أن مشكلة المغرب الحقيقية هي أن مسؤوليه لا يكتفون فقط بالعيش على ظهره، وإنما يصرون على العيش فوق مستواه وطاقته.
إذا كانت فرنسا أغنى من المغرب 25 مرة، والمواطن الفرنسي أغنى من المواطن المغربي 13 مرة، فإن المنطق الاقتصادي السليم يقول إنه إذا كان الحد الأدنى للأجور في فرنسا هو 1200 أورو في الشهر فإن الحد الأدنى للأجور في المغرب يجب أن يكون أقل من ذلك 13 مرة، بحيث لا يتعدى 92 أورو.
لكن المشكلة أنه في فرنسا يشكل الحد الأدنى للأجور عشرة في المائة من قيمة أعلى راتب في لائحة رواتب موظفي الدولة. مثال: إذا كان الحد الأدنى للأجور هو 1200 أورو فإن أعلى راتب في الوظيفة العمومية لا يجب أن يتعدى 12000 أورو. ولذلك فالوزير الأول الفرنسي يتوصل كل شهر براتب لا يتعدى 15000 أورو، بعد تخفيض أجور الوزراء، بمعنى «السميك» 12 مرة، أما الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، فلا يتعدى راتبه 19000 أورو.
أما عندنا في المغرب، الذي يعتبر، حسب الأرقام الرسمية، أفقر 26 مرة من فرنسا وعائداتنا السنوية أقل من عائدات فرنسا 13 مرة، كم يا ترى يتقاضى رئيس الحكومة؟
حسب مستوى العيش في المغرب، فراتب رئيس الحكومة لا يجب أن يتعدى 20 ألف درهم. لكنه في الحقيقة يصل إلى 120 ألف درهم مع التعويضات التي يتوصل بها، بمعنى «السميك» 50 مرة. وبالنظر إلى مستوى العيش الحقيقي للمغرب مقارنة بمستوى العيش الحقيقي لفرنسا، فرئيس الحكومة، سعد الدين العثماني يتقاضى راتبا أكبر ست مرات من الوزير الأول الفرنسي.
هذا بخصوص الوزير الأول، فماذا بخصوص بقية الوزراء؟
على مدى تاريخ الحكومة المغربية كله لم يسجل استغناء أكثر من أربعة وزراء عن رواتبهم وقبولهم الاشتغال في الحكومة مجانا والاستغناء عن سكنها الوظيفي وسيارات خدمتها. هناك الملياردير كريم العمراني، ووزير الفلاحة الأسبق الدمناتي، ووزير الفلاحة الحالي عزيز أخنوش، ووزير التجارة والصناعة، حفيظ العلمي، أما الباقون فجميعهم يتوصلون برواتبهم كاملة، حوالي 150 منهم غادروا الحكومة وما زالوا يتقاضون 38 ألف درهم كتقاعد.
يتقاضى كل وزير من وزراء الحكومة 70 ألف درهم كراتب شهري. ولديهم سكن عبارة عن فيلا بعضها مجهز بمسبح، وتعويضات الهاتف والتدفئة وتعويضات الأواني بمبلغ 5 آلاف درهم شهريا، ومستخدمون في المطبخ والحراسة وتربية الأبناء وسائقون وحظيرة من سيارات الخدمة من نوع «ميرسيديس كلاص سي» و«بي إم دوبل في»، ومنهم من يتوفر على سيارات ألمانية فارهة مصفحة مضادة للرصاص، وتعويضات عن التنقل والسفر غير محدودة.
في فرنسا، خامس أقوى دولة في العالم والعضو في مجموعة الثمانية التي تضم أغنى دول العالم، يتقاضى الوزير 13 ألف أورو. ليس له الحق سوى في سائق واحد وسيارة خدمة واحدة، لا حق للسيدة «حرم» الوزير في استعمالها للذهاب إلى «الصونا» أو «الكوافورة»، كما لا حق له هو نفسه في استعمالها خلال العطلة أو خلال نهاية الأسبوع. أما السكن، فليس هناك مجال للحديث لا عن الفيلا ولا عن المسبح ولا عن الخدم والحشم. السكن الوحيد الذي من حق الوزير الفرنسي هو مقر إقامته داخل وزارته إذا كان متوفرا، وإذا لم يكن ذلك ممكنا تصرف له الدولة تعويضا لكي يكتري منزلا شريطة ألا تتعدى مساحته 80 مترا مربعا. وفي حالة توفره على أبناء تمتعه الدولة بعشرين مترا مربعا إضافية. وهي المساحة التي يخصص بعض الوزراء والمسؤولين عندنا ضعفها لكلب الحراسة في فيلاتهم الفسيحة.
أما بخصوص الوزير الأول الفرنسي فعنوان سكنه هو قصر «ماتنيون» الجمهوري، وهو في الآن ذاته مكتبه الرئاسي. لديه في حوزته سيارة من نوع «سيتروين». ليس هناك مجال للحديث لا عن «ميرسيديس» ولا عن «جاغوار» ولا عن «بي إم دوبل في» أو «ليكسيس». أما بقية الوزراء فيركبون جميعهم على متن سيارات من نوع «بوجو».
وإذا طبقنا المنطق الاقتصادي الذي يقول إن موظفي الدولة يجب أن يتقاضوا رواتب تتناسب مع الناتج الداخلي الخام لكل مواطن وإذا كان البرلماني الفرنسي يحصل على 6900 أورو شهريا فالبرلماني عندنا يجب أن يحصل على 7000 درهم لا غير، أي أقل من نظيره الفرنسي بمعدل 13 مرة، ببساطة لأن فرنسا أغنى من المغرب 13 مرة، في حين نجد برلمانيينا يتوصلون بتعويضات شهرية بحوالي 40 ألف درهم شهريا، دون احتساب تعويضات التنقل عبر الطائرات والقطار و”بونات” البنزين والمازوط والهاتف .
وليس المغرب الرسمي وحده من يعيش فوق مستواه وقدراته، بل حتى الخدمات المقدمة إلى شعب الفقراء من المغاربة لا تحترم مستوى الناتج الداخلي الخام لكل مواطن. وإذا كان ثمن كراء شقة في باريس يساوي 1200 أورو، فإنه في الدار البيضاء لا يجب أن يتعدى 100 أورو، أي حوالي 1100 درهم، في حين نجد ثمن كراء صندوق إسمنتي لا يقل عن 4000 درهم شهريا، وإذا كان هناك سفر سياحي من باريس إلى مراكش لخمسة أيام بثمن لا يتعدى 600 أورو، ففي المغرب لا يجب أن يتعدى 600 درهم.
وإذا كانت زيارة الطبيب في فرنسا تكلف 24 أورو، فإنها في المغرب لا يجب أن تتعدى 2 أورو، أي 20 درهما لا غير، وفوق هذا يجب أن تعوضها شركة التأمين.
هذه أمثلة لكي تروا بوضوح أن تكلفة العيش في المغرب باهظة جدا وتنافس تكلفة العيش في الدول الغنية دون أن نكون بالضرورة بلدًا غنيًا. هذا في الوقت الذي يحتل فيه المغرب الرتبة 123 في سلم التنمية البشرية عالميا، السلم نفسه الذي تحتل فيه فرنسا المرتبة 21.
لهذا يجب أن يخجل الوزير السابق الحسين الوردي من نفسه وهو يقارن بين ميزانية وزارة الصحة المغربية وميزانية مستشفى مارسيليا.
ولهذا يجب أن تتم مراجعة رواتب وتعويضات الوزراء والبرلمانيين ومعهم كبار موظفي الإدارات العمومية، لكي تتماشى مع ميزانية البلد في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها.