شوف تشوف

الرأي

من النجف إلى قم.. رسائل أخطأت العنوان

من الصدف أن يكون العراقيون، على المستوى الرسمي، تنبهوا إلى أن سفير المغرب في بغداد كان يكثر من زياراته إلى النجف، ولم يتوقعوا أن الشخص الذي كان يعايده، وفق تقاليد متوازية، سيصبح له شأن في أكبر وأشرس مواجهة عسكرية أزهقت ضحايا بمئات الآلاف في حرب مدمرة.
ولئن كان في مستطاع فرد واحد، مثل نيرون الذي أحرق روما، أن يزج بمنطقة كاملة في حرب طاحنة، إرضاء لازدرائه بسلطة إصدار القرار رقم واحد، فليس في متناول دول وتجمعات أن توقف لهيب النيران المستعرة التي تزيدها رياح الكراهية والضغينة استشراء. فدائما هناك رجل واحد يصنع الحرب، ويعجز كثيرون عن امتهان إطفائيي الحرائق.
سيرد الدكتور عبد الهادي التازي، لدى استفساره عن أهداف زياراته المتكررة ولقائه بالإمام آية الله الخميني الذي كان منفيا في النجف، أنه لا يفعل أكثر من صلة الرحم، لأنه اعتقد دائما أن التعايش بين أتباع المذهبين السني والشيعي هو الأصل، وأن الاختلاف في الاجتهاد له سقف محدد، لا ينبغي تجاوزه عبر استخدام الدين لأهداف سياسية، خصوصا إن كانت تروم التفرقة والغلو وتجزئة مساحة الوحدة.
ينطق الدكتور التازي بلغة العارفين، فهو من كتب عن التاريخ الدبلوماسي للمغرب، يوم كان السفراء علماء ومفكرين وأدباء، سماتهم تعكس درجات التقدم والاعتزاز، وأي دولة أوروبية أو عربية لا يحط بها سفير مغربي تمني النفس بالتقرب إلى هذه البلاد التي أرخت الأمجاد. ولأنه كان متيمنا بالتاريخ، كان كبار الشخصيات العراقية يقصدون مجالسته المفتوحة التي تشع منها الأنوار. وصادف أن العراقيين، إبان مروره من السفارة المغربية في بلاد الرافدين، لم يؤاخذوه على زياراته المتكررة إلى النجف، مع كل الحذر الذي كان يخالج النفوس.
أُبعد آية الله الخميني من العراق، ولم تبعد عنه الزيارات المتواصلة. ويا لمكر التاريخ له أنه بقي معتكفا في حوزته داخل الحرب، أكانت الحرب العراقية – الإيرانية ستندلع بنفس القسوة والدمار الذي كان يغلب عليه فكرة: إما قاتل أو مقتول. يسألني موظف المطار في بغداد وقد أمسك بي أحمل سجادا إيرانيا صغيرا: هل عندكم شيعة في المغرب؟ أرد ملتويا بأن لنا بعضا من طقوسها، لكن عاشوراء يحتفل بها الأطفال ويوقظون المشاعل في الطرقات ولا يحزنون.
لكن الزميل محمد بن يحيى، الذي كان يساريا، سيقول لي إنه فوجئ بأن شيوعيين واشتراكيين ونخبا مثقفة من الإيرانيين كانوا بدورهم يزورون الخميني في منفاه في «نوفيل لوشاطو» بفرنسا، إلى جانب رجالات دين وأصحاب بازارات، يوم كان يبعث بتسجيلات صوتية على «الكاسيط» هزمت أعتى جهاز استخبارات دموية في إيران.
يقدم صورا جمعته إلى أبو الحسن بني صدر وبعض أفراد الشلة الذين كانوا أقرب إلى عقل آية الله الخميني. ويعلق بعد أن تكون الثورة أكلت أقرب أبنائها، بأنه شيء لا يصدق أن تتحالف كل الأضداد في وقت واحد، ثم تفترق السبل كما في البدايات. وما كان يعني المغرب الذي توسط في مناسبات مختلفة بين إيران وجوارها، ألا يكون سقوط الشاه نهاية علاقات تشابكت فيها مرجعيات روحية واستراتيجية. لم يراوح الخط الأحمر مكانه ولا شيء يبيح اللهاث وراء فكرة مجنونة اسمها «تصدير الثورة»، إذ تراد لتغيير القناعات والمبادئ وثوابت الدول.
ظهر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات رفقة أبو جهاد يجلسان القرفصاء في حضرة آية الله الخميني في قم، التي عاد إليها منتصرا بعد دخول طهران في أكبر حشد لم تشهد له إمبراطورية فارس نظيرا. وحين زار المغرب حمل معه رجاء وحيدا مفاده أن من أجل القضية الفلسطينية، يمكن للمغرب أن يتحمل الصعوبات. ليكن إذن فالعلاقات القائمة بين الدول تمضي وإن انهارت أنظمتها، بخاصة إن كانت من شاكلة شاه إيران الذي أصبح سلوكه أشد استفزازا لشعب بلاده.
يقدم السفراء أوراق اعتمادهم إلى رؤساء الدول، ذاك تقليد متعارف عليه، لكن إيران كانت مختلفة. ليس حسن أبو صدر من يحكم وإنما ولاية الفقيه القابع في قم. تذكر المغاربة أن عالما كبيرا صرف جهوده في التنقيب في مآثر نفائس التاريخ اسمه عبد الهادي التازي، كان يعرف الإمام الخميني شخصيا، وأبقى على جسور التواصل مع الإيرانيين الذين كان يسأل عن أحوال مثقفيهم ونخبهم ودبلوماسيين. وكان أكثر اهتماما بأوضاع الخليج والشرق الأوسط.
من غيره يصلح لمهمة كهاته، مليئة بالمخاطر والمطبات؟ فقد تقبل المهمة بصدر رحب، وذهب إلى طهران يجرب حظه في جذب عقارب الساعة إلى وفاق جديد، كان التاريخ سلاحه والإقناع منهجيته، وبدا مترفعا عن كل التوجسات. ومنذ أن كانت مقرات البعثات الدبلوماسية في طهران وهي مركز استهداف. وكثيرا ما كان يحذر من أن السفارات وجدت لتقريب وجهات النظر وتمرير الخطابات عبر قنوات سلسة، لذا يتعين عدم الاقتراب منها، وإن تعالت درجات الخلافات.
لم يخفق الدكتور عبد الهادي التازي في مهمته، فقد فشل الإيرانيون في أن يبادلوا المبادرات المغربية بما يليق بها من تقدير. ثم اضطر إلى مغادرة طهران، وهو الدبلوماسي الذي كان تجاوز كل المحظورات في الإبقاء على تقليد زيارته إلى الإمام الخميني في نجف العراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى