الرؤيا الصادقة.. حلف الفضول والدفاع عن المظلومين
بقلم: خالص جلبي
(31) الرؤيا الصادقة: إنها جزء من 46 جزءا من النبوة
روى البخاري (6989) حديثا من أحاديث أبي سعيد، ومسلم (2263) حديثا من أحاديث أبي هريرة.
عَنْ رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) .
نعرف أن النبوة استمرت 23 سنة، ولكن حسب حديث عائشة رضي الله عنها، أن الوحي ابتدأ بالرؤيا الصادقة ولمدة ستة أشهر، وهكذا فحاصل القسمة، هو أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
وموضوع الرؤيا شيء عجيب، وأنا شخصيا رأيت العديد من المنامات، فتحققت صدقا وعدلا. منها لابنتي مريم وقد جرحت في حاجبها، ومنها أخي جودت سعيد، داعية السلام، الذي جاءته المنية بتركيا، في نهاية شهر يناير من عام 2022. بقي أن أقول إن هذا العلم له علاقة بعلم الباراسيكولوجيا، أي علم النفس الموازي أو الفائق، وهذا له بحثه المستقل الواسع.
(32) حلف الفضول والدفاع عن المظلومين:
هذه الواقعة هامة جدا من جانبين، الأول الروح العربية في ذلك الوقت، والثاني رفضهم للظلم وتوقيع معاهدة دولية قانونية على ذلك. ليس هذا فقط، بل تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم للواقعة، وقوله إنه لو دعي لها في الإسلام لأجاب. وتأتي أهمية هذه الواقعة أنها تصب في معنى القتال في سبيل الله، وأنها دعوة لإقامة حلف عالمي، لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان. وبذلك تتوضح فكرة القتال في سبيل الله، أنه ليس لنشر الإسلام، بل لرفع الظلم عن المظلومين، أينما كانوا ومهما دانوا. وهذا الكلام يمكن أن نتكلم به، في أي محفل دولي.
لقد عاش رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في مكة المكرمة طفولته وشبابه، وله فيها ذكريات عزيزة، وحِلْف الفضول وما يتضمنه من مكارم الشيم وعظيم الأخلاق من هذه الذكريات التي ملكت عليه قلبه، حتى أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال بعد أن أكرمه الله بالنبوة والرسالة: (لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم). )رواه أحمد) .
شهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلف الفضول، الذي تم بعد حرب الفجار بأربعة أشهر، وسببه أن رجلا من زبيد (بلد باليمن) قدم إلى مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة، في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يُرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وأبرموا هذا الحلف، الذي سمي بحلف الفضول، لأن من قام به كان في أسمائه الفضل، كالفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة، كما ذكر ذلك البخاري في «الأدب المفرد» .
وفي النقاش الذي كان يدور بيني وبين أحد رموز الجهاد، كان يتعجب من طرحي فكرة «اللاعنف»، فيعلق بأسلوب لا يخلو من السخرية وبقدر كبير من الطمأنينة: ماذا تفعل بهذه الآية: «فقاتل في سبيل الله لا تُكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين»؟ إنها مشروع تكليف فردي، قبل إلزام الجماعة والدولة.
أعظم إشكالية تواجه فكرة «اللاعنف» في العالم الإسلامي، هي فكرة الجهاد في سبيل الله التي تتضمن القتال المسلح، وهو عنف بالضرورة. اللاعنف إذاً فكرة غير إسلامية، لأنها تعطل الجهاد، وهو ماض إلى يوم القيامة، ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق.
اللاعنف ثانيا مصطلح غير إسلامي غربي مستورد، نبيه «غاندي» من الهند في القرن العشرين، أو هو مفهوم مسيحي، فمن لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، تمثله فرقة الآميش بأمريكا، في نموذج منقرض لا يتماشى مع الطبيعة الإنسانية. اللاعنف إذاً مفهوم غريب لم ينبت في تربة الثقافة الإسلامية، وهو يصطدم بشكل جوهري مع فكرة الجهاد في سبيل الله.
اللاعنف ثالثا غير مفهوم، في ضوء عشرات الآيات التي تحض على القتال في سبيل الله، مقابل اعتماد بضع آيات من سورة «المائدة» في صراع ابني آدم، الذي اتخذ أحدهما موقف عدم الدفاع عن النفس «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين»، لآيات نسختها أية السيف في سورة «التوبة» تحت عنوان مجلجل في براءة من الله ورسوله في رسالة واضحة إلى المشركين ـ غير أصحاب العهود ـ في الجزيرة العربية، أن أمامهم مهلة أربعة أشهر يسيحون في الأرض في مواجهة خيارين بعدها، الإسلام أو السيف، لتنشأ ثقافة في العلاقات الدولية أن الدولة الإسلامية في علاقة حرب مع الدول المجاورة، فإما دفعت الجزية، أو اعتنقت الإسلام، أو الحرب كخيار لا مفر منه.
لفك هذه الإشكالية لن ينفعها أن تتهم أمريكا «بن لادن» أنه إرهابي، في الوقت الذي تشعر الجماعات الإسلامية المسلحة أنها تجاهد في وجه أكبر طاغوت على وجه الأرض، يكيل بميزانين، ويعيق نمو العالم بشرك أعظم من حجم قرار الفيتو. كما لن تنفعها كتابات جماعة ما بعد الحداثة، في مهاجمة الأصولية أنها ضد العقلانية والتنوير وتاريخية النصوص. كما لن يولد الحل من الدوائر الأمنية في العالم العربي، التي تطارد التنظيمات السرية المسلحة تحت الأرض في محاولة لاستئصالها، في لعبة الفأر والقط، والتملص من قبضة المخابرات، لتتكاثر بأشد من أعشاب الأرض في فصل الربيع بعد شتاء ماطر، يغذيها حماس للإسلام أكثر من وعي منهجي، في استحضار مرير لتاريخ عظيم أمام واقع بئيس، واستبداد سياسي يقود الأمة إلى كوارث وبئس الورد المورود.
حتى ندخل إلى أي كمبيوتر لا بد من معرفة «مفتاح الدخول PASSWORD»، وحتى يمكن أن نتعامل مع برامج الذهنية الإسلامية، لا بد من مخاطبته بالكلمة التي يحترمها ويثق بها ويمكن أن تغيره.
لا بد من استعمال النصوص ومفاتيح الثقافة الإسلامية، بتركيب أدوية ولقاحات نحقن بها العقل العربي ضد جرثومة العنف التي تسري في مفاصل الثقافة وشرايينها، مسببة نوافض مريعة من دورات العنف كما في بردية الملاريا.
لقد أصبح العنف داء متوطنا كما نرى، والمجتمع العربي في عمومه غير محصن ضده، وأي بقعة معرضة للزلزال، لأن ثقافة الجهاد المغلوطة تنتج وفق نسخ مزورة.
إشكالية الجهاد لم تعالج حتى اليوم على نحو واضح مع كل وضوح النصوص القرآنية؛ فلا الفقهاء قديما صاغوها في نظرية متماسكة، ولا مفكرو النخبة الإسلامية وصلوا إلى رؤية مبلورة فيها. وما زال رجال من مستوى القمة في التفكير الإسلامي، يرون أن لا حرج من الانقلابات العسكرية البيضاء، ولكن من يضمن بياض الانقلاب من احمرار لونه، طالما كان السلاح هو الفيصل في حده الحد بين الجد واللعب؟
يعتبر «أبو حنيفة» من أجود الأدمغة التي أنتجتها الثقافة الإسلامية، رأى في خروج «محمد ذو النفس الزكية» في ثورته على أبي جعفر المنصور، أنه يشبه خروج الرسول (ص) إلى معركة بدر، وتمنى لو استطاع حمل السيف إلى جانبه، ولكنه أرسل إليه ينصره بالفتوى والمال، ولعل هذا كان سببا في موته مسموما على رواية أوردها «أبو زهرة». وهكذا اختلط الخروج على الحكام بالجهاد الإسلامي، حتى في عقلية فذة من حجم الفقيه الأعظم.
لا غرابة أن نشأ في تاريخنا اتجاه دموي كامل يحمل اسم الخوارج.
إذا كان «الخوارج» مثلوا أقصى التطرف، فإن أفكارهم تزيد وتنقص تم اعتناقها من اتجاهات لم تسم نفسها بالخوارج، ولكنها أحيت أفكارهم دوما عبر التاريخ الإسلامي، انتهاء بالاتجاهات الإسلامية السياسية المعاصرة في كثير من أجنحتها؛ فالخوارج ينامون اليوم مستريحة عظامهم، بعد أن تم إحياء مذهبهم.
لا بد من وضع قواعد صارمة لفهم «آلية» الجهاد بمعنى القتال المسلح و«وظيفته» و«بيد من» يستخدم؟ و«ضد من» يشن؟ وإلا فإن أمامنا دفع فواتير مريعة من الدماء مع فوائدها المركبة.
يعتبر «مالك بن نبي» أن معركة «صفين» هي أكبر من كارثة في التاريخ الإسلامي، فمعها انكسر مخطط الحضارة الإسلامية. ويعتبر «النيهوم» أن الدولة الأموية تشبه أعرابيا بحث في فخاخ أطلال الحضارات، فأقام دولة بيزنطية جديدة، بفارق بسيط أنها دولة تلبس عباءة الخلفاء، وتقتل أحفاد النبي (ص). ومن أخطر ذيول معركة صفين، ولادة اتجاه الخوارج الذين حملوا السيف في وجه الحاكم الذي يبدو لهم ظالما كأعظم جهاد، فقتلوا أعدل الناس الإمام علي كرم الله وجهه، في الوقت الذي اتفقت فيه الأمة بكل مدارسها أن عمل الخوارج لا يوصف بحال بأنه جهاد، بل هو مروق السهم من الرمية.
يبدو أن الثقافة العربية الإسلامية دخلت نفقا مسدودا في مشكلة تداول السلطة السلمي، فبعد الخلفاء الراشدين وحياة الرشد لم يبق إلا الغي، ولم يأت مفتاح الحل من داخل ثقافتنا، بل من وراء أعمدة هرقل من بحر الظلمات؛ فنحن اليوم نسمع بالديموقراطية وتبادل السلطة السلمي، فنركض خلفها لنلبسها عباءة الشورى ونطليها بدهان إسلامي، بعد أن لم تكن في كل تاريخنا شورى للحظة واحدة، بعد علي رضي الله عنه، في ظاهرة استعصاء كامل للثقافة.
وعندما عالج «ابن خلدون» مشكلة السلطة لم يستطع فهمها خارج «العصبية»، فلم يكن في مقدوره أن يتصور مجتمعا يحكم بغير السيف بإدارة جماعية، فقد دفنت تلك الأفكار في رمال الصحراء مع بني مروان.
رأى «الخوارج» أن الخليفة لا يشترط فيه أن يكون من قريش، بل أي رجل مناسب من الأمة، ولو كان أسود اللون، مجعد الشعر، رأسه كأنه زبيبة. وهذا تفكير ديموقراطي بلغة الحداثة، ولكن المشكلة في الخوارج وسواهم، بمن فيهم المعتزلة أصحاب الاتجاه العقلاني رأوا استخدام العنف في وجه خصومهم؛ وإلا كيف نفهم تعذيب ابن حنبل على يد العقلانيين؟ مرض العنف إذاً لم يكن مرض الخوارج فقط، بل كان مرض الكثيرين وما زال على درجات مختلفة من سُمِّيةِ الجرعة.
أمام الانحراف الأموي، انحرف الخوارج بزاوية أكبر، فاتهموا مخالفيهم بالكفر واستباحوا دماءهم، وتركوا خلفهم عشرات الفرق في رحلة انشطارية انتحارية. واليوم لم يبق أموي ولا خارجي، ولكننا ورثنا ثقافة العنف ودمنا الثقافي يعج بجراثيمه، فكما كان للمرض «وحدته» الإمراضية، من جرثوم وفيروس، كذلك فإن «فكرة العنف» تشكل «الوحدة» الإمراضية في الثقافة،
إذا كان الخوارج يمثلون التجلي الأعظم فهم كانوا أجرأ، وأما البقية فهم يرونهم على حق، ولكن لا يملكون هذه الجرأة الرائعة وروح التضحية التي يملكها الخوارج. وعندما أرسل أحد رموز الجهاد في بلد عربي رسالة إلى علماء وفقهاء الأمة، يدعوهم إلى الخروج على الحكام (الكافرين القوميين)، مع مطالبتهم بالرد الخطي، كانت أجوبة الكثيرين نحن معه في ذلك، ولكن لن نكتب، لأننا لا نملك جرأته في الحق. والشخص الوحيد الذي أجابه كان جودت سعيد، فكتب له بخط يده التالي: إنني لا أرى هذا أسلوبا سليما في حل المشاكل، وليس طريق الأنبياء بحال. ولكن مشكلة العنف أنها تقود إلى تعقيد المشكلة في ثلاثة اختلاطات، تأخذ بعضها برقاب بعض: أنها أولا حلقة مغلقة تحكم بقبضتها على من دخل لعبتها، وهي ثانيا دائرة يزداد أطرافها تآكلا ومعاناة، وهي ثالثا تزداد اتساعا مثل حريق الغابات، حتى لا تبقي من مساحات الحياة الخضراء شيئا.
نافذة:
لا بد من استعمال النصوص ومفاتيح الثقافة الإسلامية بتركيب أدوية ولقاحات نحقن بها العقل العربي ضد جرثومة العنف