الرأسمالية أقوى من كورونا
سامح راشد
بينما لا يزال وباء كورونا المتحول (كوفيد – 19) يضرب بقوة في مختلف أنحاء العالم، أخذت الدول الصناعية الكبرى زمام المبادرة نحو تخفيف الإجراءات الاستثنائية، وإعادة تشغيل بعض قطاعات الاقتصاد والحياة العامة. ولافت أن تلك الدول هي الأكثر تأثرا بالوباء، ولم يشفع لها التقدم الاقتصادي والتكنولوجي في الوقاية ضده أو الاستشفاء منه أسرع من غيرها. بل إن أقوى الدول اقتصادا وأعلاها تقنيا كانت الأكثر إخفاقا في مواجهة الأزمة، وانكشف لديها خلل مزدوج يجمع بين عدم كفاءة المسؤولين وعجزهم عن تقدير خطورة الموقف واتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهته مبكرا أو في الوقت المناسب، وافتقاد الإمكانات والقدرات اللوجستية القادرة على الصمود أمام جائحة واسعة النطاق. وعلى الرغم من ذلك الانكشاف، سارعت تلك الدول إلى الحد من الإجراءات الطارئة، وغلبت الدوافع الاقتصادية ومعايير إدارة الأعمال وجني الأرباح، على اعتبارات الصحة العامة وحياة المواطنين.
استندت الحكومات في ذلك إلى ضرورة استمرار النشاط وصعوبة إيقاف عجلة الحياة الاقتصادية بشكل كامل وقتا طويلا، لما سيسببه ذلك من إضرار بالغ وخسائر فادحة لاقتصادات الدول بشكل عام وميزانياتها وأرصدتها المالية بصفة خاصة، وهو ما يهدد بتقليص المخصصات والموارد الموجهة لمحاربة كورونا في المدى القصير، ورفع كفاءة البنية الصحية والمؤسسات العلاجية لاحقا.
قد يبدو هذا التوجه غير متوقع، في دول تعتبر الفرد القيمة العليا التي ينبغي الحفاظ عليها وتنميتها، وتضعه أول أولوياتها، حيث يفترض أن مؤسسات الدولة وسياساتها تعمل من أجله، وتسخر له آلياتها. ولكن المتابع للفكر الليبرالي، بمختلف تجلياته الاقتصادية والسياسية، وبإصداراته المتعددة من «دعه يعمل دعه يمر» قديما، وحتى النيوليبرالية المعاصرة، يمكنه بسهولة إدراك أن الليبرالية غير قابلة للتحقق بذاتها قيما ومبادئ. وإنما تعمل وتتجسد عبر آليات وكيانات تنشأ وتتطور وتظهر معها مصالح وروابط وقواعد عمل، تكاد تبتعد بها عن جوهرها القائم أساسا على أولوية الإنسان الفرد، فتكاد تنقلب عليه وتضعه تحت أقدامها وتفرمه بين تروسها البراغماتية، أي بتوصيف أوضح، الرأسمالية المتوحشة بوجهيها، الاقتصادي والسياسي.
يعي صانعو السياسة في العالم الغربي أن لمعادلة تشغيل الاقتصاد، بهدف توفير الموارد وتأمين القدرة على الاستمرار في مكافحة الوباء، وجه آخر معاكس. فالالتزام بالحظر الشامل هو الضمانة الوحيدة للوقاية والحفاظ على صحة المواطنين وسلامتهم، وهم الذين يمثلون غاية الدولة وأصحابها ومصدر القوة العاملة التي تقود الاقتصاد وتشغله. بينما التجاوز عن الاشتراطات الصحية وإجراءات الأمان يعني زيادة أعداد الإصابات والوفيات، وخسائر هائلة في القوة البشرية، بما فيها الأيدي العاملة والتخصصات النوعية. وحينئذ، يصبح التساؤل مشروعا حول وجه الاستفادة وهوية المستفيد من دوران عجلة الاقتصاد، إذا كان البشر، المفترض أنهم الغاية والمستهدف النهائي، صاروا غير موجودين، ولو جزئيا.
ولأن المواطن العادي في الدول الصناعية يدرك هذا التناقض، حدث الخلاف بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وكثير من حكام الولايات، فهم أكثر قربا من المواطنين والتزاما بالمسؤولية عنهم. أما الرئيس في البيت الأبيض، فيكون أكثر تأثرا بشركات النفط والمجمعات الصناعية العسكرية والمدنية. وبالمنطق ذاته، قررت إيطاليا انتقاء الشباب وصغار السن للعلاج وترك المسنين لمصيرهم. بينما طبقت السويد طريقة «مناعة القطيع»، حيث يصير البقاء للأفضل والأقوى، بآلية «الانتخاب الطبيعي».
لهذه الدول الرأسمالية منطق واضح، بغض النظر عن البعد الأخلاقي فيه، فالرأسمالية لا تعرف الإنسانية، والأولوية لديها للأقوى والأكثر فائدة والأقدر على العمل والإنتاج. أما غير المفهوم فهو أن تفتح بعض الدول أبوابها من دون مبرر أو ضرورة، وهي لا تستطيع مواجهة انتشار كورونا، ولا تملك اقتصادا يُخشى كساده أو صناعات جديرة بالحماية. ولا تفسير للتعجيل بعودة المواطنين إلى الشوارع، سوى فتح الأسواق لاستيعاب الخدمات والسلع التي ستضخها مجددا تلك الآلة الرأسمالية المتوحشة.