شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

الذكريات المنسية لطلبة المغرب بالخارج

محامون وقادة سياسيون وحتى أبناء محظوظين

«منهم من درسوا في فرنسا، ومنهم من اتجهوا إلى الشرق. النتيجة كانت واحدة، كان لا بد من العودة إلى المغرب، رغم أن الأجواء السياسية وقتها كانت متقلبة.

سواء عندما تعلق الأمر بأول بعثة إلى الخارج في عهد المولى الحسن الأول، أو عندما تعلق الأمر بالطلبة المغاربة الأوائل، الذين حصلوا على شهادة البكالوريا قبل الاستقلال.

أما بعد سنة 1956 فقد ظهرت اتجاهات جديدة، نحو الشرق، بكل المتاعب والمتابعات التي كانت تحملها للذين اختاروا تلك الطريق.

 

يونس جنوحي

+++++++++++++++++++++++

 

هؤلاء أوائل المغاربة الذين قرروا الدراسة بالخارج

الفرنسيون أنفسهم، أول من تفرغ لدراسة توجه المغاربة إلى فرنسا للدراسة. إذ في فترة حكم المولى الحسن الأول، توجهت إلى فرنسا بعثة مغربية لتعلم اللغة الفرنسية، ما بين سنتي 1887 و1890.

وتوجد في الأرشيف الفرنسي بعض التفاصيل المتعلقة بمضامين رسالة المولى الحسن الأول، التي منحها للبعثة المغربية التي انطلقت من قصر مدينة فاس واتجهت إلى طنجة، حيث كانت باخرة فرنسية تنتظر البعثة المغربية لتقلها إلى حيث كان وفد فرنسي مكون من وزير الخارجية ووزير التعليم الفرنسيين، في استقبال الوفد.

كان الوفد مكونا من قرابة عشرة طلبة مغاربة، يرافقهم مترجم فرنسي مقيم في مدينة فاس، كان يتحدث العربية، بالإضافة إلى مستشار جزائري كان يتحدث الفرنسية بطلاقة.

توجد إشارة إلى هذه البعثة المغربية التي اعتُبرت الأولى من نوعها، في بحث أجراه الفرنسي «جوان رايمر» واختار له عنوان «هجرة المغاربة إلى فرنسا». هذا البحث الجامعي الذي اعتمد فيه الباحث الفرنسي على وثائق أرشيف الجمهورية الفرنسية، أجري سنة 1937، وتطرق في شق مهم منه إلى هجرة العمال المغاربة، الذين جلبهم الجيش الفرنسي للعمل في فرنسا، قبل الحرب العالمية الثانية. لكنه أفرد فصلا كاملا للبعثات العلمية المغربية، منذ عهد السلطان المولى الحسن الأول، وصولا إلى ثلاثينيات القرن الماضي.

ومن جملة ما جاء في هذه الدراسة، أن البعثات المغربية الأولى إلى فرنسا بهدف التعلم، كانت تقتصر على برنامج مكثف لتعلم اللغة، يستفيد منه موظفون يختارهم القصر بعناية، وترفع لائحة بأسمائهم إلى السلطان لكي يوقع عليها. ويكون البرنامج العلمي مركزا على اللغة الفرنسية، وتحديث الإدارة، وتعلم كيفية كتابة الخطابات الإدارية، والتعرف على ثقافة المعاملات الإدارية الفرنسية. وعندما يعود أولئك الموظفون المغاربة الذين تربوا في أسلاك نظام المخزن التقليدي، يعهد إليهم بمهام كتابة الردود، والرسائل إلى البعثات الأجنبية في المغرب، واستقبال الوفود الأجنبية التي تزور وقتها القصر الملكي بفاس.

بعد ذلك، بدأت مرحلة أخرى رصدتها هذه الدراسة الفرنسية، التي تم تعريبها لاحقا ونشرت في مجلة مغربية بعنوان «رسالة المغرب» سنة 1942، والتي توجد اليوم في أرشيف المكتبة الوطنية، جاء فيها أن المغرب بدأ بعد ذلك مرحلة أخرى، وتم الاستغناء عن عادة البعثات للبرامج المكثفة في اللغة الفرنسية، لتصبح البعثة متركزة على طالب مغربي وحيد، حيث تشير الدراسة إلى أن الأمر كان يتعلق بطالب متفوق من مدينة فاس، بُعث إلى فرنسا لكي يستكمل دراسته العليا، لكن الدراسة لم تشر إلى أي تفاصيل أخرى في الموضوع.

لكن مع مجيء مرحلة ثلاثينيات القرن الماضي، ظهر جيل جديد من الرواد الذين استطاعوا البصم على مسار أكاديمي مميز، ولعل أبرزهم هو الرمز الوطني محمد بن الحسن الوزاني، الذي يعتبر أول مغربي وصل إلى مرحلة الدراسات العليا المعمقة في العلوم السياسية، حيث كان المغربي الوحيد الذي حصل عليها، قبل سنة 1933، بمعية أسماء وازنة من المشرق.

 

الوزاني، بوعبيد، بوستة، اليوسفي والآخرون

باعتراف أشهر الوزراء المصريين في أربعينيات القرن المنصرم، كان المغربي محمد بن الحسن الوزاني أول مغربي يدرس العلوم السياسية في جامعة أجنبية، حيث تفوق في دفعته على بقية الطلبة العرب، وعاد إلى المغرب حاملا معه شهادة جامعية مرموقة، أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، ويصبح أحد أوائل المغاربة الذين أسسوا للصحافة المغربية والكتابة السياسية، حيث كانت كتاباته مزعجة جدا للإدارة الفرنسية. كما أنه كان أحد المهندسين الأوائل لإيصال قضية استقلال المغرب عن فرنسا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة.

محمد بن الحسن الوزاني شارك في مؤلفات جماعية مع كُتاب فرنسيين وعرب، وكان من نخبة الأسماء التي تنشر لها مجلات ودوريات عربية، إذ إن العلاقات التي كونها مع بقية الطلبة العرب، خصوصا المصريين والسوريين، سهلت له ولوج عالم النشر من أوسع أبوابه في وقت مبكر، مع بداية أربعينيات القرن المنصرم.

أما عبد الرحيم بوعبيد، فقد كان بإجماع الاشتراكيين الفرنسيين، أحد الأطر المغربية التي تتوفر على الكفاءة اللازمة لقيادة تيار سياسي اشتراكي بالمغرب. إذ إن صداقاته مع رموز اليسار الفرنسي تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، عندما كان شابا في صفوف الحركة الوطنية المغربية. وكان أيضا من أوائل المغاربة الذين تكونوا في اللغة الفرنسية، ليصبح قادرا على مجاراة الفرنسيين ومحاورتهم بلغتهم. كان عبد الرحيم بوعبيد يتبع المهدي بن بركة، الذي درس مع الفرنسيين وتفوق عليهم وفرض اسمه بقوة في مجال الرياضيات، حيث حصل على أرفع الترتيبات في التفوق العلمي، متجاوزا أبناء الفرنسيين المقيمين في المغرب، وتفوق أيضا على مستوى المدارس التابعة للنظام الفرنسي، بما فيها المدارس الفرنسية.

هذا الجيل المؤسس لشباب الحركة الوطنية، كانا متفوقا في الدراسة بالخارج، حيث إن امحمد بوستة وعبد الرحمن اليوسفي كانا أيضا من الطلبة المغاربة الذين تفوقوا في الدراسة الثانوية بالمغرب، ومكنتهما مرحلة الدراسة بفرنسا من مجاراة الفرنسيين وأسسا تيارا مغربيا في فرنسا، ظهر دوره بقوة سنة 1954 عند التمهيد لإنهاء أزمة العرش بعودة الأسرة الملكية من مدغشقر إلى باريس. حيث كان بوستة وبوعبيد في استقبال الملك الراحل محمد الخامس، وولي العهد الأمير مولاي الحسن، وقابلا أعضاء من الحكومة الفرنسية للتفاوض على ترتيبات عودة الأسرة الملكية، بالإضافة إلى دور مهم جدا في الترتيب لمحادثات «إكس ليبان». ولولا أن هذا الجيل من الحركة الوطنية تكون بشكل جيد في الجامعات الفرنسية، لما كانت هناك أسماء مؤهلة للجلوس إلى الطاولة مع وزير الخارجية الفرنسي، وأعضاء من رئاسة الجمهورية لبحث القضية المغربية.

أما عبد الرحمن اليوسفي فقد كان يجر وراءه تجربة مختلفة، إذ إنه كان من بين الشباب المغاربة الذين اختاروا مع بداية خمسينيات القرن الماضي أن يعودوا إلى المغرب، للاشتغال في مهنة المحاماة التي كان يسيطر عليها الإسبان في منطقة الشمال، والفرنسيون في الدار البيضاء والمدن الكبرى.

اقتحام عالم المحاماة بالنسبة إلى اليوسفي وبوستة كان تحديا كبيرا، حيث إن العرف وقتها كان أن يحظى المغربي العائد من باريس بعد دراسة الحقوق، بالتدرب في مكتب محام فرنسي. لكن اليوسفي اختار أن يتدرب بطنجة، التي كان وضعها الإداري مختلفا تماما عن وضع الرباط والدار البيضاء، بحكم أنها منطقة دولية. لكنه سرعان ما غادر مكاتب المحاماة في الشمال، وجاء إلى الدار البيضاء للتأسيس للعمل النقابي، في إطار أنشطة حزب الاستقلال. وهو ما جعل اليوسفي، الذي كان للإشارة من بين الطلبة المغاربة المتفوقين في الدراسة بالخارج، يشتهر في الميدان بأنشطته السياسية، بدل أن يشتهر بالمرافعات في ردهات المحاكم.

 

 

 

+++++++++++++++++++++++

أبناء أعيان درسوا في فرنسا واتهمهم الوطنيون بالخيانة

عائلات مغربية من الشمال والجنوب، كانت تملك الموارد المالية الكافية خلال أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، لتحمل أعباء دراسة أبنائها في فرنسا، وسبقوا الوطنيين إلى الجامعات والمعاهد العليا الفرنسية.

عندما كان الباشا الكلاوي متجها إلى باريس في رحلته الشهيرة، بداية خريف سنة 1954، للقاء الملك الراحل محمد الخامس، وهو ما عُرف لاحقا بلقاء «التوبة»، كان يرافقه ابنه عبد الصادق الكلاوي. وكان الباشا قد حجز لرحلته إلى فرنسا على متن باخرة فرنسية، ودفع ثمن التذاكر كاملة، لكي ينعم بالهدوء وهو يترقب على أعصابه كيف سوف يستقبله الملك الراحل محمد الخامس، وهو الذي قاد ضده حملة سنة 1953، التي مهدت لنفيه وتنصيب بن عرفة مكانه.

لكن المشكل أن بعض الأعيان ممن كانوا يختلفون معه حول لائحة التوقيعات المطالبة بنفي السلطان، كانوا أيضا يرغبون في التوجه إلى فرنسا على متن الباخرة نفسها. وأبرزهم هو الباشا الشرادي، الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في خريبكة ونواحيها.

هذا الباشا عاقبته الإدارة الفرنسية بتجميد منصبه، والسبب أنه اختلف مع الكلاوي.

أحد أبناء الشرادي كان يتابع دراسته في الخارج، وكان الأب يريد زيارة ابنه والاطمئنان على مساره الدراسي، وفي الأخير اضطر الكلاوي إلى مقاسمته الباخرة.

تلك الواقعة كشفت أن الأعيان المغاربة، رغم أنهم كانوا رجال محافظين متشبعين بالمدرسة المخزنية العتيقة، إلا أنهم كانوا سباقين إلى إرسال أبنائهم إلى الخارج لمتابعة دراستهم.

شأنهم شأن الأعيان اليهود المغاربة، الذين سمحوا لأبنائهم منذ أربعينيات القرن الماضي، بالتوجه إلى فرنسا لاستكمال تعليمهم العالي.

أبناء وزراء السلطان محمد بن يوسف كانوا أيضا يتابعون دراستهم بفرنسا، سيما في مجالات تقنية، بحكم أن أغلبهم لم يكونوا يمتلكون أي مواهب أو طموحات معرفية لصقلها هناك. والنتيجة أن جلهم عادوا من فرنسا بدبلومات من معاهد فرنسية مرموقة، وظلوا ينتظرون فرصتهم للإدماج في الإدارات المغربية، التي كان يسيرها الفرنسيون.

في سنة 1956، وأسابيع فقط على توقيع اتفاقية الاستقلال الرسمي للمملكة في مارس من السنة ذاتها، أطلق حزب الاستقلال حملة شعواء ضد أسماء مغربية في الإدارات، خصوصا في قطاع التجهيز والاقتصاد وإدارات القطاع الفلاحي. إذ اتهم الأسماء المغربية التي تعمل هناك بالعمالة لصالح فرنسا، وأنهم إرث استعماري خالص، يجب التخلص منهم لـ«تنظيف» الإدارة المغربية من كل ما هو فرنسي.

بينما كانت تلك الحرب في الحقيقة مجرد وسيلة لتوفير مناصب شغل كافية للمحسوبين على الحزب وعلى الحركة الوطنية عموما، والذين درسوا في الخارج بدورهم.

بل إن تلك الحرب امتدت لتصل إلى مرحلة الاغتيالات، حيث إن بعض المحسوبين على خلايا المقاومة، بعد الاستقلال، قادوا حملة اغتيالات ضد أعيان وشخصيات كانت معروفة بصداقاتها مع المسؤولين الفرنسيين، مثل ما وقع في بني ملال، حيث تعرض أحد أبناء الأعيان في يناير 1956، حسب سجلات أرشيف البوليس الفرنسي في المغرب، لرصاصة غادرة وهو جالس في قلب سيارته. وكان قد عاد لتوه من فرنسا، بعد أن استكمل دراسته العليا هناك.

 

 

هكذا كانت أجواء الدراسة في باريس قبل أزيد من ستين سنة

عديدة هي الشهادات التي تناولت مرحلة الدراسة في فرنسا، لعدد من الشخصيات الوطنية. لكن الشهادة التي سجلها عبد الواحد الراضي، بخصوص مساره الجامعي في فرنسا، تبقى واحدة من أكثر الشهادات عرضا للتفاصيل والتحولات التي شاهدها الطلبة المغاربة القادمون من المدن الصغرى نحو باريس، وما أدراك ما باريس. جاء في مذكرات الراضي، والتي اختار لها عنوان «المغرب الذي عشته»، ما يلي: «باريس كانت قد بدأت مع منتصف الخمسينيات لحظة تحول حقيقية، سواء في الممارسات الفكرية والفنية أو على المستوى الثقافي والاجتماعي، وتداول الأشكال الجديدة للحياة والموضة. كل مظاهر الحياة اليومية أصبحت تبدو وكأنها مرسومة في لوحة فنية كبيرة .

تغير الإطار السوسيو ثقافي بكيفية مادية شاملة، ودخلت فرنسا عصر الثقافة الاستهلاكية، وتسارعت إيقاعات التصنيع والابتكارات والإبداعات الجديدة. بدأت ظاهرة Pret-a-»

«porter، وانتعشت بين الفرنسيين من جديد ثقافة المقاهي والمطاعم ومحلات الرقص والموسيقى Les) discothèques, les caves, les drogstors). وتحول شارع سان جيرمان، في الدائرة السادسة، إلى فضاء مفتوح على الاستعراض والفرجة والموضة، كما صار مكانا أثيرا للوجوديين، وعلى رأسهم سارتر بطبيعة الحال الذي كان يفضل أساسا مقهى «Le flore». كما كان المثقفون والفنانون والمشاهير هناك طوال الوقت.

وماذا أيضا؟ ظهرت أسطوانة 45 لفة، بعد أسطوانات 78 لفة التي كانت سائدة من قبل، ثم أسطوانة 38 لفة ذات الجودة العالية، وانتشرت ظاهرة  «tourne-disque»، وصدرت في تلك الفترة – أظن في سنة 1960- القطعة النقدية الجديدة للفرنك الفرنسي، صفراء نحاسية تحمل شعار الجمهورية الفرنسية (حرية، مساواة، أخوة)، وعليها ورقة زيتون. كما عشنا بجد دراجة السوليكس، تلك الدراجة الهوائية التي يمكنها أن تحول أيضا إلى دراجة نارية، بتشغيل محركها الصغير. صحيح أن هذه الدراجة كانت قد ابتكرت سنة 1949، لكنها – لسبب ما – لم تنتشر، إلا بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ. في تلك الفترة أيضا، كانت بدايات جوني هاليداي، وانتشرت بذلة «الميني جوب» النسائية، وعرف الفرنسيون حمالة المفاتيح Porte-» clés»، وسيارة «الدوشوفو» و«الكاتشوفو«.

وكانت باريس الجامعية هي السوربون، والحي اللاتيني. كانت السوربون هي الوحيدة في المدينة، فكانت بذلك منتدى كونيا للتلاقي الفكري والثقافي والحضاري. ولكي أحظى بالقبول في الجامعة، اجتزت امتحانا تأهيليا أولا، ثم كان علي أن أختار. وقد اخترت علم النفس الذي كان لا يزال تخصصا جامعيا حديثا، إذ لم تكن قد مرت على فتح الإجازة في علم النفس سوى ثلاث أو أربع سنوات. وهكذا، سجلتُ نفسي في هذه الإجازة، رغم إدراكي للكثير من الصعوبات المطروحة في هذا التخصص، خصوصا ما يتعلق بالمراجع العلمية الأكثر حداثة وتطورا التي كانت غير مترجمة إلى الفرنسية، ومعظمها كان بالإنجليزية والألمانية.«

 

حين اعتزل العروي المغاربة أثناء الدراسة بفرنسا

«دار المغرب»، كانت النقطة التي يجتمع فيها الطلبة المغاربة في فرنسا، حيث كان يلتقي المتفوقون في الدراسة هناك لاستكمال تعليمهم العالي. لكن لا أحد انتقد أجواء إقامة الطلبة المغاربة هناك، إلى أن تناول عبد الله العروي واقع الطلبة المغاربة الأوائل، الذين درسوا في باريس ومدن فرنسية أخرى، قبل استقلال المغرب.

إذ إن هذا المفكر الذي جمع أجزاء مهمة من تاريخ المغرب وتناول أخرى بالتحليل، أثار مشكلة كفاءة بعض الطلبة المغاربة المحظوظين الذين أكملوا تعليمهم العالي بفرنسا، أو عادوا من هناك دون أن يحرزوا أي شهادات عليا. حيث تناول تلك الأجواء في رواية «أوراق»، التي يُجمع النقاد على أنها جزء من السيرة الذاتية لعبد الله العروي، وقال إن بعض الطلبة كانوا يجتمعون في الإقامة المخصصة للطلبة المغاربة، ويقضون يومهم في لعب الورق، وطبخ الأكل المغربي. وهو ما جعل هذا المفكر المغربي وهو في بداية مساره الأكاديمي، يقرر أن يعتزل الطلبة المغاربة، ويتجه للإقامة مع طلبة أجانب من آسيا، بينهم يابانيون، حيث تعرف عليهم وأقام بينهم.

عندما نشر العروي ما كتبه عن تلك الأجواء الجامعية، تعرض لانتقادات من طرف من رأوا أنهم مستهدفون بتلك «الكواليس». لكن تشريح عبد الله العروي لوضع الطلبة المغاربة الأوائل في فرنسا، كان بمثابة الصخرة التي حركت بركة راكدة، تتعلق بموضوع الجيل المؤسس للحركة الطلابية المغربية في فرنسا على وجه الخصوص.

إذ في الوقت الذي استطاعت بعض الأسماء المغربية أن تنجح مبكرا في عدد من المجالات، كانت أسماء أخرى محظوظة قد استفادت من فترة الفراغ، وتزايد الطلب على الشباب الحاصلين على الشهادات العليا لسد الخصاص في الإدارات المغربية، بعد الاستقلال. والنتيجة كما قال العروي نفسه، إن أبناء المحظوظين الذين قضوا فترة الدراسة في لعب الورق، والتجول في شوارع باريس والمدن الفرنسية التي استقبلت الطلبة المغاربة، حصلوا على المناصب والامتيازات في الإدارات العمومية. بينما أمثال عبد الله العروي الذين حصلوا على أعلى الدرجات، وعادوا بميزات التفوق في ختام الموسم الجامعي، وجدوا أمامهم قطاع التعليم العمومي، ليلتحقوا بالمدارس التي تركتها فرنسا ويُدرسوا أبناء المغاربة.

وكان العروي من بين هؤلاء الأساتذة الذين استكملوا الإجراءات الإدارية إلى أن وصلوا إلى الجامعات، خصوصا بعد افتتاح جامعة محمد الخامس بالرباط.

لم تكن شهادة عبد الله العروي تعني أن الطلبة المغاربة كانوا عاجزين عن مجاراة بقية الجنسيات التي درست في فرنسا، إذ إن أنجح الكفاءات المغربية التي درست في فرنسا قبل الاستقلال، مشكلة الجيل الأول للطلبة المغاربة في الخارج، استطاعت فعلا انتزاع أعلى الدرجات العلمية وتحقيق التفوق العلمي والأكاديمي، ومنهم من حصلوا على عروض للتدريس في جامعات فرنسا أو الالتحاق بمعاهدها العليا، لكنهم فضلوا العودة إلى المغرب في إطار التضامن الحزبي، خصوصا منهم الذين كانوا متأثرين بالمهدي بن بركة، حيث عادوا إلى المغرب في سياق عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وهم يحلمون بالمساهمة أكاديميا في بناء مغرب بعد الاستقلال، ليكتشف أغلبهم أنهم كانوا يلاحقون السراب، عندما وجدوا أن التعيينات لم تكن كلها تعتمد على الكفاءة العلمية والشهادات التي جاؤوا بها معهم.

 

طلبة بغداد المنسيون.. شباب مغاربة لاحقهم «الكاب 1»

ملف هؤلاء الطلبة المغاربة في العراق صار منسيا، رغم أنهم كانوا يشكلون شريحة مهمة من مجمل ضحايا سنوات الرصاص. وبعضهم فقط تم الاستماع إلى شهاداتهم، في إطار الجلسات التي قادها الراحل إدريس بنزكري، أثناء تجربة «الحقيقة والإنصاف»، والتأسيس لأنشطة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان.

هؤلاء الطلبة المغاربة اتجهوا إلى العراق، مع بداية الستينيات. سيما ما بين سنتي 1962 و1963، إذ كان المغرب وقتها دولة حديثة العهد بالاستقلال، وبدأت الساحة السياسية تتجه نحو الاختناق، بعد أولى عمليات التضييق على حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في إطار مؤامرة يوليوز.

وقتها، ظهر جيل جديد من الشبان المغاربة الذين أنهوا دراستهم في قسم الثانوي مع حصول المغرب على الاستقلال، وكان يشار إليهم على أساس أنهم باكورة خريجي المدرسة العمومية المغربية، بعد الاعتراف باستقلال المغرب عن فرنسا. وهكذا، كانت الأفكار القومية قد وجدت طريقها إلى المغرب في إطار الوحدة العربية، وهو ما جعل هؤلاء الطلبة، متأثرين بأساتذتهم المنتصرين للغة العربية، ينصحونهم بالتوجه إلى مصر أو العراق لاستكمال دراستهم العليا. وقد كانت وقتها الحكومات في هذه الدول تشجع الطلبة المغاربة، وتضع منحا تحفيزية لهم، بالإضافة إلى منحة من الحكومة المغربية.

كان الملك الراحل الحسن الثاني قد وقع مجموعة من الاتفاقيات في هذا الباب، منها استقبال وزارة التعليم المغربية لأطر من مصر والعراق وسوريا للعمل في المغرب، وهو ما جعل بعض هؤلاء الأساتذة يقعون في مشاكل، بسبب أفكارهم اليسارية التقدمية التي حاولوا نشرها في صفوف التلاميذ.

لكن الطلبة المغاربة الذين اتجهوا إلى العراق، سيما الذين تخصصوا في دراسة الحقوق ببغداد ودمشق، بدؤوا يلتقون مع الرموز المؤسسة لحزب البعث القومي.

وهناك التقى بعض هؤلاء الطلبة مع تيار محمد الفقيه البصري، الذي غادر المغرب سنة 1963 في إطار مؤامرة يوليوز، التي اتُهم فيها بمحاولة قلب النظام.

وهكذا أصبحت الأجهزة السرية «الكاب 1»، التي كان يشرف عليها كل من الجنرال أوفقير والدليمي، تضع الطلبة المغاربة في بغداد على رأس قائمة المطلوبين. حتى أن بعض الطلبة المغاربة هناك عندما عادوا إلى المغرب لقضاء العطلة الصيفية، ما بين سنتي 1964 و1965، تعرضوا للاحتجاز وفتشوا تفتيشا دقيقا، وتم التحقيق معهم لساعات طويلة. وفي لوائح الاختفاء القسري ومطالب العائلات، خلال لقاءات الإنصاف والمصالحة، أثيرت بعض أسماء الطلبة القدامى بسوريا والعراق، حيث طالبت العائلات بالكشف عن مصير أبنائها، بعد اختفائهم أثناء عودتهم إلى المغرب لقضاء العطلة الصيفية. ويرجح وقتها أن يكون التحقيق معهم قد تم، في «دار المقري».

الناجون من تلك التجربة حكوا عن رغبة الكولونيل الدليمي وقتها في معرفة معلومات عن أنشطة الطلبة المغاربة في سوريا والعراق ولبنان، وعلاقاتهم مع طلبة عرب من التيار البعثي، الذين كانوا يرون في انقلاب جمال عبد الناصر على الملك فاروق، نموذجا يجب أن يُعمم في كل دول الملكيات العربية. لكن ما كان يقلق الدليمي وأوفقير أكثر، هو علاقة هؤلاء الطلبة بتيار الفقيه البصري، الذي كان يتردد دائما على مصر وسوريا والعراق لزيارة أصدقائه البعثيين، بعد أن منحته الجزائر جواز سفر للتنقل بحرية بين باريس والعواصم العربية، في إطار أنشطته النضالية.

بعض هؤلاء الطلبة تبعوا الفقيه البصري إلى باريس، عقب استكمال دراستهم في العراق، ورفضوا العودة إلى المغرب، مخافة أن يتم اعتقالهم مثل ما وقع لزملائهم، لكن آخرين وهم الأغلبية عادوا فعلا إلى المغرب ومعهم إجازات جامعية في الحقوق، وتمكنوا من الالتحاق بسهولة بعالم المحاماة، حيث شكلوا شريحة من المحامين المكونين في الشرق بشكل جيد، وكانوا معروفين في مرحلة السبعينيات بأفكارهم التقدمية ومقالاتهم في صحف المعارضة، ومرافعاتهم النارية والفصيحة في المحاكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى