بقلم: خالص جلبي
بعد تجربتي المريرة مع البعوض بدأت احترم الذباب، فالذبابة كائن راقي يحترم قوانين النوم، فهو ينام مع الظلام، ويلحس الجلد في النهار، ويطير برشاقة، ويرى بسهولة ويُقْضَى عليه بيسر! أما البعوض فيسهر في الليل، ويحفر الجلد، ويشفط الدم بشراهة جائع في وقت مجاعة، ومع هجمة الظلام يستنفر نفسه مثل (الكوماندو) الليلي، وفي اللحظة التي يرتخي فيها بدنك، ويداعب الكرى جفنيك، يبدأ الخبيث بمحاولات الاستطلاع (ربما بواسطة الأشعة تحت الحمراء) فيطن بجانب الأذنين، ثم يسكت، وتظن أن اللعين اختفى، ولكن الهدوء يدوم في حدود عشر دقائق، لأنه يكون قد قام بتركيب (الحفَّارات) ونصب المنجنيق، وقام بالهجوم السري في جنح الظلام، وربما بحقن مادة مخدرة في مكان الثقب، حيث يقذف ببصاقه فيرشف الدم بدون أن يتجلط، ويحرك نوبة مريعة من حك الجلد، الذي يصل إلى درجة أن يجرح الإنسان نفسه إطفاء لشراهية الحك! لذا فقد اعتمدتُ أنا شخصيا استراتيجية جذرية مع البعوض في غرفة النوم، وهي بقاء أحدنا فقط في الغرفة! ومحاولة قتله وهو متربص على السقف استعدادا للهجوم، ولكنها عملية ليست بدون مخاطر، فزميلي الدكتور «عادل» كُسِّرَتْ ذراعه في حملة مطاردة لبعوضة. ومع المعارك الطاحنة مع البعوض التمعت الآية القرآنية التي تتكلم عن (البعوضة) أمام نظري على شكل آخر (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضةً فما فوقها)؛ فاعتبرت الآية أن هذا الكائن موضع للتأمل من جهة، وأن البعوضة في أسفل سلم الخلائق فينطلق المثل منها لفوق، وقلت حقا إنها ـ بالنسبة إلينا ـ من أحقر وأضعف ما خلق الرحمان من جنود، في صفتين عجيبتين بدون حدود: ضعف بدون حدود، وإزعاج بدون حدود! فهي في منتهى الهشاشة، وهي في الوقت نفسه وحش مفترس يلعق الدم. تبين أن عندها مائة عين، وثلاثة قلوب، وجهاز تخدير في الوخز، وقدرة شم خاصة لرائحة الأرجل ولو من بعد 60 مترا، وست شفرات حلاقة لمص الدم، و48 ضرسا! وثلاثة أجنحة في كل طرف، وجهاز حراري يعمل بالأشعة تحت الحمراء، ومختبر للدم يعرف الأنواع اللذيذة مثل دمي أنا، وجهاز مميع للدم، فإذا شفط الدم تحول إلى شراب لذيذ سائغ شرابه تنتفخ به البعوضة بما هو أشد من ثقلها إلى ثمانية أضعاف؛ فيستحيل لونها للسواد، فإذا ضربت سهل قتلها وترش الدم على الحائط! والقرآن حينما يزج بمجموعة ضخمة من الأمثلة، في محاولة منه لتحريك العقل باتجاه اكتشاف (الطبيعة والتاريخ)، فهو يستخدم البعوضة والذبابة، النمل والنحل، العنكبوت والهدهد، والبقرة والفيل، لنكتشف أنفسنا في هذا المهرجان الكوني ونرى دلائل الخلق التي لا تنتهي. ولكن أين تقف (البعوضة) في سلم الخلق؟
هناك جدلية عجيبة في الوجود اكتشفها العلم الجديد، فالفكر الإنساني السابق، افترض وجود ساحة للمعلوم وساحة للمجهول، بحيث تنكمش ساحة المجهول مع كل زحف لساحة المعلوم، إلا أن العلم الحديث أدرك أن ازدياد ساحة المعلوم لا يعني انكماش وتقلص المجهول، بل على العكس فإنه يفضي إلى المزيد من اتساع رقعة المجهول، وهي فكرة تبدو للوهلة الأولى متناقضة وغريبة، ويمكن شرحها في علم الفيزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) أُميط اللثام عن آلية تخثر الدم، وفرك العلماء أيديهم من الفرح، أنهم اكتشفوا آليات بسيطة محدودة مؤثرة في تخثر الدم، من مثل الصفيحات والفيبرين والكلس والفيتامين (ك) والبروثرومبين، ولكن فرحتهم مع الوقت لم تدم طويلا، وبدأ الصداع يصيب رؤوسهم، فهم كل يوم أمام اكتشاف عنصر جديد (بلغت ما لا يقل عن اثني عشر عنصرا)، والأدهى أن كل عنصر يدخل ضمن (مجموعة تركيبية) كل عنصر يأخذ مكانه في اللعبة، ويؤثر بدوره في ما عداه من عناصر! وهكذا فكل غوص لأسفل الخليقة يعني زيادة في الخلق. وفي عام 1918 قتلت الأنفلونزا أكثر مما قتل من الجنود في الحرب الكونية، التي سمعنا خبرها من جداتنا عن (سفر بلك!) ولم نرها ونعاينها ـ لحسن الحظ ـ ولكن عرفنا الكثير من قصص الجنود، الذين تركوا بيوتهم للجبهة العثمانية ولم يعودوا قط. ويقولون إن أنفلونزا عام 1918 بدأت أيضا ناعمة لطيفة، لتنقلب وحشا كاسرا، يستيقظ فيه الناس وهم يضحكون، وفي الظهر يتعبون، وفي المساء إلى المقابر يدلفون. ورأيت أنا شخصيا فيلما مروعا عن الجائحة، وفي ذروة المرض، مات في مدينة بوسطن لوحدها وفي شهر واحد 11 ألف إنسان!
ويقدر العلماء أن فيروس أنفلونزا الخنازير يمتاز بخلطة تفجيرية فظيعة من تراكيب بضع قطع من فيروسات شتى، بين الأنفلونزا البشرية وأنفلونزا الطيور وخنازير أمريكا وأوراسيا. ومن مخاطر هذا المرض أنه يحتضن على ما يبدو في الأغشية المخاطية عند الخنازير، قبل أن يبدأ بالانتقال إلى البشر، ثم قفزه من البشر إلى البشر وعن طريق التنفس! وفي الحقيقة فإن كثيرا من الناس يقرؤون هذه المعلومات مثل الطلاسم، فوجب التوضيح والتبسيط ومن عدة زوايا. وأولها ما هو الفيروس؟ وثانيها أين يقع في سلم الخلائق؟ وثالثها كيف ينفجر المرض؟ وما هي أسسه الفلسفية؟ أي ما الذي يجعل فيروسا خاملا نشيطا عدوانيا فتاكا، مثل أي إنسان يعيش بسلام، ثم وفجأة يبدأ في الجنون! وفي عام 1918 لم يعرف العالم كيف بدأ المرض ومن أين جاء وكيف انتشر وكيف اختفى في النهاية؟ فكله بقي سرا مغلقا حتى جاء المجهر الإلكتروني فأحصى المسألة عددا وفك أسرار مغاليقها.
المهم لنضع المبدأ الفلسفي نصب أعيننا: تفاءل بالأفضل واستعد للأسوأ.
نافذة:
العلم الحديث أدرك أن ازدياد ساحة المعلوم لا يعني انكماش وتقلص المجهول بل على العكس فإنه يفضي إلى المزيد من اتساع رقعة المجهول