شوف تشوف

الرأي

«الديمقراطية» من دون الفصل بين السلطات

عبد الإله بلقزيز

إذا كان النظام الديمقراطي نقيض نظام الاستبداد، فلأنه يفصل بين ما يجتمع في نظام الاستبداد: السلطات الثلاث، ويعيد توزيعها بما يحقق التوازن في عملها ويمنع الاستئثار بها جميعها من قبل مركز واحد.
لهذا يعد الفصل بين السلطات أظهر سمات النظام الديمقراطي التي بها يتميز من نقائضه، وبها يؤمن حماية السلطة من الشطط من طريق تقييد السلطة بالسلطة، كما يقول مونتسكيو، فيلسوف القانون. ولما كان الشعب مصدر السلطة، في الفكر السياسي الحديث وفي الدولة الحديثة، كان الفصل بين السلطات آكَدَ الضمانات لئلا تصادر السلطة من مالكها الذي نقلها إلى الجسم السياسي لإدارتها باسمه.
انصرف أكثر اهتمام النظرية السياسية الحديثة وفلاسفتها إلى مسألة مشروعية السلطة، فيما لم يُعَر كثير انتباه إلى ضماناتها التي تقيد ممارستها. لا شك في أن فلاسفة السياسة في النصف الثاني من القرن السابع عشر- خاصة سبينوزا وجون لوك – فكروا في هندسة لسلطة الدولة لا تترك مجالا أمام جنوحها للاستبداد، خلافا لما انتهى إليه توماس هوبز من تبرير للسلطة المطلقة؛ وهُمْ في هذا يلتقون مع مونتسكيو في نقده الاستبداد. غير أن انشغالهم الرئيس بمسألة مشروعية السلطة، وبناءَهم إياها على فكرة الاتفاق والتعاقد، وما يقترن بها من نقل للحقوق الطبيعية إلى مجلس، أداهُم إلى حسبان التمثيل الصيغة الأرقى والأجلى للمشروعية، والضمانة الأمثل لمراقبة السلطة وتقييدها وتشريع القوانين. هكذا لم ينتبهوا إلى أن التمثيل وحده لا يلغي الاستبداد وإن كان من شأنه أن يحفظ للشعب مصدريته للسلطة ومشاركته غير المباشرة في إدارة الشؤون العامة.
ما من شك في أن مشروعية السلطة، القائمة على الاتفاق والتراضي، ومبدأ التمثيل من أساسات صرح الدولة الحديثة. لكنهما لا يكفيانها كي تدفع الاستبداد إن لم يقترن معهما مبدأ ثالث رئيس هو الفصل بين السلطات؛ الذي يعني استقلالية كل واحدة منها عن الأخرى، من جهة، وعدم الجمع بينها لدى أي مركز من مراكز السلطة من جهة أخرى. ولقد تقررت هذه الهندسة السياسية، الرامية إلى توزيع متوازن للسلطات في الدولة، في أرقى شكل من التنظير لها، في نهاية النصف الأول من القرن الثامن عشر، في عمل مونتسكيو الموسوعي «روح القوانين». ولكن مونتسكيو، في الوقت عينه، لم يكن يبدع مبدأ سياسيا جديدا تماما؛ إذِ الفصل بين السلطات فكرة لها تاريخ في فلسفة العقد الاجتماعي، كما أن مونتسكيو استخلصها من الدستور الأمريكي، وإنما كان يشدد عليها بما هي الأس في أساسات الدولة الحديثة.
من البين أن تجربة الدولة الوطنية في الغرب، منذ الثورة الفرنسية، غلبت – في التطبيق- جانب مبدأ التمثيل على مبدأ الفصل بين السلطات. آيُ ذلك أنه استقر الاعتقاد، لدى أكثر النخب السياسية، بأن الديمقراطية هي النظام المبني على التمثيل الصحيح، الذي ينتجه نظام للاقتراع نزيه وشفاف يترجم توازنات القوى والآراء في المجتمع، ويقود إلى إنتاج مؤسسات تمثيلية شرعية؛ وأن النظام هذا هو مصدر مشروعية السلطة؛ لأن السلطة المنبثقة منه تمثل الغالبية المعبرة عن إرادتها الحرة. لهذا أسرفت هذه السردية في بيان حاجة السياسة والدولة إلى معادلة الغالبية والقلة («الأقلية») لتقرير وجه المشروعية، ولتمكين الحياة السياسية من التوازن الذي هو شرط أي استقرار سياسي ومدني.
كان جون ستيوارت مل قد حذر، في منتصف القرن التاسع عشر- وهو ينتقد نظام الديمقراطية القائم على فرضية تمثيل إرادة الغالبية -، من طغيان الغالبية ومن ديكتاتورية غلبتها وتهديدها الحريات باسم احترام إرادة الناخبين. وكرت سبحة النقد بعده مع اللاحقين (ماكس فيبر، حيث يقابل الديمقراطية بالعقلانية؛ وحنة أرندت؛ حيث تحذر من ديمقراطية تقود إلى الشعبوية؛ ويورغن هابرماس؛ حيث يدحض الديمقراطية الأداتية أو الإجرائية بالديمقراطية التداولية…). ولم يكن ما قاله هؤلاء وغيرهم بناء ذهنيا لنموذج افتراضي، بقدر ما كان نقدا لانحرافات في مسار النظام الديمقراطي المطبق في بلدان الغرب.
ونحن نحسب أن أعظم انحراف كان في ذلك المسار هو إبطال العمل بمبدأ الفصل بين السلطة، وبيان ذلك كالتالي:
تعني الديمقراطية، اليوم، أعني في دول الغرب ومن ساروا على نهجها من خارجه، الانتخابات الحرة النزيهةَ التي تنبثق منها غالبية تدير السلطة بناء على تفويض غالبية القاعدة الانتخابية من المواطنين الذين منحوها ثقتهم، وفوضوها بإدارة السلطة. كما أن السلطة الديمقراطية تعني، اليوم، تلك الحكومة المنتخبة انتخابا حرا نزيها، أي المنبثقة من تلك الغالبية. النتيجة المترتبة عن هذه القاعدة «الديمقراطية» أن الغالبية، الخارجة من صناديق الاقتراع، تحتل موقع القوة الرئيس في مؤسسة التشريع، وفي الوقت عينه، تشكل حكومة مستندة إلى ثقة الغالبية النيابية. وهكذا تسيطر على سلطتين من سلطات الدولة: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في الآن عينه. أين، إذن، سَمْتُ الديمقراطية ومعيارها: الفصل بين السلطات؟ وقد يعظم الخطب حين تفضي المنافسات الانتخابية الرئاسية إلى انتخاب رئيس من الفريق الحزبي أو السياسي «الأغلبي»؛ فتكون النتيجة أن الرئاسة والبرلمان والحكومة تصير جميعها في حوزة فريق سياسي واحد يجمع بين هذه السلطات!
ديمقراطية منقوصة؟ نعم؛ استبداد مقنع؟ بالتأكيد. لكن ذلك يجري باسم الديمقراطية وقد نُزع منها الجوهر، وضرب أهم ضماناتها: الفصل بين السلطات.

يعد الفصل بين السلطات أظهر سمات النظام الديمقراطي التي بها يتميز من نقائضه، وبها يؤمن حماية السلطة من الشطط من طريق تقييد السلطة بالسلطة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى