شوف تشوف

الرأي

الدورة التاريخية الخالدة (2- 3)

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

حتى نفهم العقم الحضاري وجذوره الخبيثة، فإن هذه القصة المثيرة جاءت في الوقائع التي عاصرها ابن بطوطة بالذات، وكان شاهدا شخصيا فيها؛ تلقي الضوء على الميكانيزم التاريخي الذي بدأ ينخر في كيان الحضارة الإسلامية، عن فقيه مصاب بلوثة عقلية قام يعظ الناس كالمجنون، فقام الناس عليه ونشبت «حفلة ملاكمة» بالأيدي والأحذية من طرف واحد، حتى طارت عمامة الفقيه «المجنون»، فسلموه بعدها إلى القاضي الذي قام بحبسه وتعزيره «وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم.. فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلم به، فقامت العامة إلى هذا الفقيه، وضربوه بالنعال ضربا كثيرا حتى سقطت عمامته.. واحتملوه إلى دار عز الدين ابن مسلم، قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه وعزره». بقي أن نعرف سبب حفلة الضرب هذه وما خلفها؟

ينقل لنا ابن بطوطة أنه كان يقول بـ«أمور منكرة منها أن المطلق بالثلاث في كلمة واحدة لا تلزمه إلا طلقة واحدة.  وبقي أن نعرف أن هذا الفقيه «ذا اللوثة» كان «ابن تيمية»، الذي يعتبر مالك بن نبي مؤلفاته «الترسانة الفكرية التي ما زالت تمد الحركات الإصلاحية بالأفكار النموذجية حتى اليوم»،   الذي مات بعدها بفترة خلف قضبان السجن حزينا مكسور القلب، في سجن القلعة بدمشق، ودفن في مكان مستشفى الولادة حاليا المقابل لجامعة دمشق، وبجانبه تلميذه الوفي صاحب المؤلفات الغزيرة، ابن قيم الجوزية. وابن بطوطة المذكور خرج من طنجة في المغرب الأقصى في 21 يونيو من عام 1325 ميلادي، ورجع إلى بيته عام 1354م فيكون قد استغرق من السنوات الميلادية 29 سنة ومن الهجرية 31 سنة، وتراجع القصة بالتفصيل في كتاب «الرحلة»، نشر دار صادر، ص 95.

 

فكرة الدورة وعبقرية الاختراع

 كل ما في الكون يقوم على حقيقة أنطولوجية تمسك بمفاصل الوجود، من حقيقة الدورة، في شرائح لانهائية للوجود، من الحقيقة الفيزيائية إلى الدورة الفلكية، بين دورة الإلكترون والكوكب ودوران العجلة. من دورة الماء في الطبيعة، إلى دورة الحياة، ومسلسل أيام الدول، ونظم قيام المجتمعات، وحركة نهوض وتعثر الحضارات.

نحن لا نعلم بالضبط من اخترع العجلة، ولكننا نعرف أن الحضارة الفرعونية صرعت بهجوم العربات التي قادها الهكسوس بهجومهم الصاعق المخترق من غربي آسيا، فالحضارة الفرعونية لم تستأنس الحيوان، ولم تنقل أحجار الأهرام بالعربات، فلم تكن تعرف العجلة التي تدور على نفسها بحركتها الرتيبة التي تعيد نفسها في دورة لا تعرف الملل، نقلت الإنسان في المكان، وحررته من طوق المسافات، وطورت على ظهر هذا الإطار سرعات خرافية وصلت إلى اختراق جاذبية الغلاف الجوي بالصواريخ.

 

 الحركة الدائرية أصل في الوجود

الحركة الدائرية أصل في الوجود، تشكل جدلية مثيرة بين الثبات والتطور، والجمود والحركة، والسكون والانتقال، والمحافظة والتغير.

في الفيزياء تخضع الذرة لهذا القانون بين ثبات النواة النسبي ودوران الإلكترون، وفي الفلك تنتظم حركة المجموعة الشمسية بدوران الكواكب حول الشمس. وكما كان دوران الكوكب يحب القطع الناقص الإهليلجي، فإن حركة الإلكترون تخضع لنظام الحركة نفسه، كما كشف عنها العالم سومر فيلد عام 1916م.

تتغير طبيعة الماء من النهر إلى النهر، في دائرة محكمة من التبخر من الأنهار والبحيرات، إلى التجمع والتكثف في السماء، إلى السقوط إلى الأرض مرة ثانية، في دورة عملاقة محكمة متكاملة.

 يمسك الوجود قانون صارم في دورة حياة النبات والحيوان والإنسان، في حركة قوسية محكمة بين الولادة والنمو، فالنضج، فالتحلل، إلى الاستسلام إلى الفناء، ليخرج من رماد الأموات حياة جديدة، فكما عبر القرآن عن طبيعة هذا التغير وشكل التحول بأنه من ضعف إلى قوة، ومن القوة من جديد إلى الضعف والشيبة، كذلك اعتبر أن هناك تبادلا في العلاقات بين الموت والحياة، فهو يخرج الحي من الميت، كما يخرج الميت من الحي تماما، في معادلة ذات لغز صارم مستعص على الفهم.

إذا كان الإلكترون يدور ليصل إلى حيث بدأ، والأرض تدور لتعود إلى النقطة التي خرجت منها، وقطرة الماء تصعد خفيفة تطير إلى الأفق لتعود سيرتها الأولى نقية طاهرة أفضل مما خرجت، كذلك حياة النسل الجديد، فبقدر سحق الطبيعة للفرد بقدر محافظتها على النوع، في تجل ثلاثي بديع، فالنسل الجديد يكرر وينقى ويتطور إلى الأفضل، وهكذا فأولادنا ليسوا نسخة عنا، أو «كوبي» مكرر، بل هم نسخة أفضل منا، مما لا يمكن لأي جهاز نسخ أن يفعل مثل هذا، في عملية متفردة مدهشة بيد الخالق البارئ المصور.

 

الدورة التاريخية الاجتماعية 

وإذا كان مصير الخلية في البدن يماثلها مصير الفرد في المجتمع، بين التضحية بالفرد من أجل الكائن الأرقى، فإن القانون نفسه ينطبق على مصير المجتمعات في القدر الإنساني الأعظم. وهكذا فالدول والمجتمعات تمر بالدورة التاريخية ذاتها، وتلك الأيام نداولها بين الناس، فتولد الدولة قوية ويتشكل المجتمع بفعل دينامي حيوي ذي زخم قوي، لينمو ويتطور، ثم ليتباطأ ويتراجع، ثم ليتحلل، ليسقط في النهاية في قبضة الفناء والعدم. وهكذا زالت الدول، وطوى العدم أمما شتى، وقبائل لا حصر لها، وشعوبا شادت وعمرت، فلا نحس منهم من أحد أو نسمع لهم ركزا «صوتا خفيا».

 

نافذة:

يمسك الوجود قانون صارم في دورة حياة النبات والحيوان والإنسان في حركة قوسية محكمة بين الولادة والنمو فالنضج فالتحلل إلى الاستسلام إلى الفناء ليخرج من رماد الأموات حياة جديدة

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى