الدماغ والعقل
بقلم: خالص جلبي
إذا عرفنا أن لكل آلة (طاقة) تحركها و(نظام) تعمل بموجبه و(مادة) مكونة منها، فكيف يعمل العقل الإنساني؟ يقول عالم النفس السلوكي (سكينر): «كيف يمكن للعقل أن يحرك الجسد؟»، لقد صاغ (كارل بوبر) عام 1965م السؤال على النحو التالي: إن ما نريد فهمه هو كيف يمكن للأشياء (غير المادية)، مثل التفكير الهادئ والقرارات والقيم، أن تلعب دورا في إحداث تغيرات في (العالم المادي)؟
وبالطبع نريد أيضا أن نعرف من أين تأتي هذه الأشياء (غير المادية)؟ وقد أجاب الإغريق عن هذا السؤال فقط بالقول إن المصدر هو الآلهة. وكما أشار (دودز) كان الإغريق يعتقدون بأنه إذا ما تصرف إنسان بحماقة، فإن ذلك مرده إلى أن إلها معاديا قد غرس في صدره ما يفسد سلوكه. ولقد ظن أرسطو أن هناك شيئا إلهيا في الفكر. وينتهي (سكينر) إلى محاولة فهم الأثر الاجتماعي في تشكيل سلوك الإنسان، أي نقل المسألة من (التيولوجيا) إلى (الواقع).
ونحن لم نعرف أهمية الدماغ إلا من خلال الدراسات العصبية الحديثة التي حررتنا من الإعاقات العقلية التي تركها لنا الفكر (الأرسطي) وجالينوس؛ فأما (جالينوس) الذي عاش في القرن الثاني للميلاد فجل ما وصل إليه انتباهه، إلى أن النخاع الشوكي يلعب دورا في الحس والحركة، وأما الدماغ فقيمته هي في (السائل الحلو الذي يجول في بطيناته).
وأما (أرسطو) فقد اعتبر أن مكان التفكير هو القلب وأن دور الدماغ لا يزيد على (رادياتور) السيارة المبرد. وطغت عقيدة أرسطو على الفكر وجمدته ألف سنة ويزيد، مثل قصة دوران الشمس حول الأرض التي تبنتها الكنيسة عن بطليموس، والسبب في هذا هو (المنطق الصوري) الاستنباطي (Deduction) النظري. ولم يكن للعلم أن ينشط لولا تبني المنهج الاستقرائي (Induction)، الذي يقوم على الملاحظة والتجريب، أي النزول إلى أرض الواقع بإحداث علاقة جدلية بين التصورات والممارسة، ولم يكن لأحد طرفي العلاقة أن يتخصب لولا ارتباطه الوثيق بالطرف الآخر الذي يتعشق به؛ فيرتفع الاثنان صعدا.
وينطبق هذا القانون على أي حقل معرفي؛ فالطبيب الذي يغوص في الممارسة تاركا المعلومات النظرية خلف ظهره نسيا ينقلب إلى ممرض سيئ. كما أن الطبيب الذي يهمل الممارسة الميدانية ينقلب إلى أكاديمي منظر. وكلاهما يخسر مهنته أن يكون طبيبا من حيث لا يشعر. وهي مصيبة العالم الإسلامي اليوم في انفكاك النصوص عن الواقع، وهي سر انحطاط المسلمين.
ولم نعرف قيمة الدماغ الفعلية إلا على يد (فيساليوس) عام 1543م الذي وضع مبضعه على جسد الإنسان، وكان يدرس أدمغة المجرمين الذي يعدمون حديثا ورؤوسهم لا تزال دافئة. وقد وصف المؤرخ (ديورانت) سنة 1543 م بعام العجائب، لأن فيه انفتح الطريق إلى ثلاثة أنواع من الجغرافيا ووضعت خرائط جديدة للجسم والأرض والسماء؛ ففيها قلب (كوبرنيكوس) التصورات عن دوران الأرض، وفيها أي سنة 1543م شرح (فيساليوس) جسم الإنسان، بعد أن كان علم التشريح حجرا محجورا. وفيها رسمت خرائط جديدة للقارات بعد نجاح رحلة ماجلان. وهنا يجب أن نعترف لـ(أبقراط) بأنه كان الأول الذي أدرك قبل 2400 سنة أن الدماغ هو مركز كل شيء فينا.
يقول أبقراط: «ويجب على الناس أن يعلموا أن البهجة والسرور والضحك والرياضة والحزن والكآبة واليأس والنواح لا تأتي إلا من المخ. وإننا بوساطة المخ وبطريقة خاصة نتعلم الحكمة والمعرفة، ونرى ونسمع ونعرف الطيب من الرديء والصالح من الطالح والحلو من المر. وأننا بواسطة المخ نميز كذلك بين الأشياء اللذيذة وغير اللذيذة. وأن نفس الأشياء ذاتها لا تسرنا دائما، وأننا بوساطة العضو نفسه نصبح مجانين وفي حالة هذيان، أو أن الخوف والرعب يقومان بملاحقتنا».
ومشكلة المسلمات العقلية أنها تعيق التقدم الفكري، سواء ما نناقشه هنا في (مركز التفكير)، أو في نموذج ثان حول تصور (البناء الذري) للمادة، الذي جاء من الفكر الإغريقي حينما اعتبر جل فلاسفة اليونان أن (الآتوم Atom) الذرة هي الجزء الذي لا يتجزأ. ولم يكن للعقل الإنساني أن يتقدم بدون تحطيم هذه المسلمات الإغريقية. وبذلك لم تعد الذرة الجزء الذي لا يتجزأ، كما لم يبق القلب مكان الشخصية.
كان كسر المسلمة الأولى على طاولة الألماني الكيميائي (أوتو هان Otto Hahn)، الذي انفلقت الذرة على يديه عام 1938م. وانتهت أسطورة القلب على يد الجراح (كريستيان برنارد) من جنوب إفريقيا، عندما قام بأول زرع قلب لمريضه (لويس واشكانسكي) عام 1967م، أخذه من صدر فتاة في حكم الميتة فلم تتغير شخصية المريض.