بقلم: خالص جلبي
إذا كان العقل أو جهاز التفكير غامض الماهية، فكيف يمكن بناء إبستمولوجيا المعرفة. للاجابة عن هذا السؤال يقدم لنا محمد كامل حسين، جراح العظام، جوابه في صورة من البهاء الفكري والإشراق الأدبي والعمق الفلسفي؛ فيرى أن يكون المدخل إلى المعرفة على الشكل التالي: «في الكون نظام، وفي العقل نظام، والمعرفة هي مطابقة هذين النظامين. والنظامان من معدن واحد، والمطابقة بينهما ممكنة لما فيهما من تشابه. ولو لم يكونا متشابهين لاستحالت المعرفة. ولو لم تكن المطابقة بينهما ممكنة، ما علم أحد شيئا؛ وتشابه النظامين الكوني والعقلي ليس فرضا يحتاج إلى برهان؛ بل هو جوهر إمكان المعرفة. ومن أنكره فقد أنكر المعرفة كلها. وهذا الإنكار خطأ يدل عليه ما حقق العقل من قدرة على التحكم في كثير من الأمور الطبيعية. ولم نكن لنستطيع تحقيق شيء من ذلك، لو أن النظامين كانا مختلفين، ومهما تتغير المعرفة ومذاهب التفكير وفهمنا للكون، فإن الحقيقة التي ثبتت ثبوتا قطعيا هو هذا التوافق بين نظام الكون ونظام العقل».
الغوص في أدغال المخ الرهيبة:
عندما يتعرض جراح الأوعية الأمريكي ذو الأصل الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للعلوم، للدماغ وعمله وكمية المعلومات المكدسة حول طبيعته، لا يجد أفضل من وصفه بأدغال إفريقيا الاستوائية كثيفة الأشجار، مع فارق أن هذه الأشجار تتغير على الدوام. جاء في كتاب «الإنسان ذلك المجهول MAN THE UNKNOWN»: «هناك تفاوت عجيب بين علوم الجماد وعلوم الحياة، فعلوم الفلك والميكانيكا والطبيعة تقوم على آراء يمكن التعبير عنها بسداد وفصاحة باللغة الحسابية. بيد أن موقف علوم الحياة يختلف عن ذلك كل الاختلاف، حتى ليبدو كأن أولئك الذين يدرسون الحياة قد ضلوا طريقهم في غاب متشابك الأشجار، أو أنهم في قلب دغل سحري لا تكف أشجاره التي لا عداد لها عن تغيير أماكنها وأحجامها؛ فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق التي يستطيعون أن يصفوها، ولكنهم يعجزون عن تعرفها، أو تحديدها في معادلات جبرية».
هذا الشعور يتكرر أيضا عند العالمة «إليزابيث كروسبي»، من جامعة ميشيغان، التي قضت ثلاثين عاما في أبحاث الخلايا العصبية وممراتها عند الحيوانات والقردة بشكل خاص؛ ففي كتاب «العقل البشري THE HUMAN BRAIN»، تأليف «جون فايفر JOHN PFEIFFER»، يأتي وصف العقل الحديث وعلاقته بقشرة الدماغ، وتأتي لفظة (الدغل المخي) على وجه التحديد ما يلي: «هذا هو العقل الحديث الذي يمثل المركز الرئيسي لجميع الصفات البشرية الفريدة، فهو من أكثف أجزاء الدغل المخي وأكثرها نموا، ويحتوي على مناطق غامضة لا يمكن ارتيادها، مثل مساحات الأرض الشاسعة التي كانت مجهولة منذ عدة قرون مضت. ولا يمكن لعالم أو مجموعة من العلماء أن يتفهموا هذه القشرة كلها، فقد يتطلب استكشاف منطقة منها لا تزيد على طابع بريد أعواما طويلة، ولقد صادف التخصص في البحث في الآونة الأخيرة الكثير من الانتقادات، لأنه يتسبب في وجود مصطلحات فنية غريبة وأناس يجدون صعوبة في الاتصال ببعضهم البعض إلى درجة كبيرة، ومع ذلك فلا يوجد من وسيلة أخرى لدراسة أشياء معقدة كقشرة المخ».
وحتى يمكن أن نقترب من معنى هذه الكلمات، لأن الإمساك بهذا المفتاح سيفتح الطريق إلى دخول خزانة الوجود وكنز المعرفة الأساسية، لذا لا بد من إلقاء الضوء على الجانب التكويني النسجي؛ فإذا تصورنا القبة السماوية التي تسحرنا ببهائها، تتلألأ في نصف الكرة منها قرابة مائة مليار نجم تعود إلى مجرتنا طريق الحليب (MILK – WAY)، أو ما سماها الأقدمون درب التبانة أو التبن، فإن سقف الدماغ يمثل حقيقة أعقد وأعظم، ففي سماء قبة الدماغ تشع بالنور والفعالية الكهربية مائة مليار خلية عصبية، مع فارق أن كل خلية تمتد بمحاور واستطالات تتصل بها مع بقية الخلايا العصبية في الدماغ والجسد، بشبكة وصل مرعبة بحق ينهار التفكير عندما يسترسل في تصورها. وعندما أراد «شينتارو إيشيهارا SHINTARO – ISHIHARA»، عضو الدايت (البرلمان الياباني)، تصوير التفوق الياباني التكنولوجي، فإنه لجأ إلى دارات الوصل في الكمبيوتر، فقال: «إن شريحة الميغابايت الواحدة المستخدمة في موقع التخزين الداخلي في الكمبيوتر تمتلك مليون دائرة على قاعدة في مادة السيليكون، يبلغ حجمها ثلث حجم البنصر في يدي».
إن لوحة الفيديو الداخلية أو التلفزيون تصيبنا بالهلع ونحن نتأمل داراتها المتصلة، ولكن ماذا نقول بدارات عصبية تقوم بها مائة مليار من الخلايا العصبية، كل واحدة منها تتصل بألف اتصال، بل عشرة، بل مائتي ألف كما في خلايا بوركينج في المخيخ؟
إنها شبكات وصل عملاقة لا تخطر على قلب بشر، وهو ما طرحه كاتب تحت رقم الجوجول (GOGOL)، أي الرقم عشرة مرفوع إلى أس 100 (أي رقم أمامه مائة صفر)، مع العلم أن المليار أمامه تسعة أصفار فقط والمليون ستة أصفار! فيكون الرقم مليارا مكررا 12 مرة.
نافذة:
سقف الدماغ يمثل حقيقة أعقد وأعظم ففي سماء قبة الدماغ تشع بالنور والفعالية الكهربية مائة مليار خلية عصبية