المصطفى مورادي
تابعنا في الأعداد السابقة الحياة الثقافية الفرنسية، ليس لأنها نموذج، ولكن لأنها الأقرب إلينا. الحدث الثقافي الذي خلقته رواية بوعلام صنصال، «نهاية العالم 2084»، أعطت للنقاش حول ما يعرف بـ«الإسلاموفوبيا» بعدا آخر، إذ تناولت مشكلة التطرف الديني في بعد أدبي وفكري عميق جدا، يعيد الأدب المعاصر إلى زمن رواية «1984» للروائي العالمي جورج أوريل. علما أن هذا الموضوع، ليس رفاهية فكرة بل هو موضوع الساعة في أوربا كلها. والأهم على المستوى الثقافي هو التساوق الرفيع والمتين بين الإنتاج الثقافي والحياة الثقافية من جهة، واهتمامات الرأي العام من جهة أخرى. لذلك من الطبيعي جدا، وفق هذه العلاقة، أن نجد القراء الفرنسيين شغوفين بمتابعة الإنتاجات الثقافية والأدبية والنقدية والفلسفية التي تعطيهم إمكانات جديدة في التفكير.
أما عندنا، فمن الصعب كثيرا الحديث عن الحياة الثقافية، ليس لأنها غير موجودة، وليس لأننا نعدم المثقفين والأدباء والفلاسفة ودور النشر والمكتبات ودور السينما، ولكن أساسا لأن كل هذا هلامي الطبيعة، وتنعدم العلاقات الفكرية العميقة كالتي نعرفها في أوربا، والتي تشهد حياة ثقافية حقيقية. فعندنا ماتزال وزارة الثقافية، بالرغم من أننا في شهر أكتوبر، والانتهاء الرسمي للصيف.. (ما تزال الوزارة) لم تبدأ بعد أي نشاط ثقافي رسمي. ليس لأن الموضوعات التي تشغل الرأي العام المغربي منعدمة، ولكن لأن المؤسسات الرسمية المغربية تعمل بذهنية إدارية حتى عندما يتعلق الأمر بالثقافة. لذلك من الطبيعي جدا أن تتأثر الحياة الثقافية الرسمية وتنفعل بالحديث السياسي، أكثر مما تؤثر فيه. ليس فقط لأن السياسيين غير مهتمين بسؤال الثقافة، وغالبا ما يستغلون الحدث الثقافي لتمرير الخطاب الحزبوي الفج، ولكن أساسا لأن السياسة عندنا لم تدخل بعد مرحلة التعاقد الحقيقي الذي يعزز الثقة في التعايش والاختلاف. وبالتالي يعطي إمكانات ظهور الفعل الثقافي.
في هذا السياق، يصعب فعلا أن نتحدث عن دخول ثقافي، ليس لأنه متأخر، كما يعتقد البعض، بل لأنه غير موجود، ولعل برمجة المعرض الدولي للكتاب والنشر الذي يعقد كل سنة في البيضاء في شهر فبراير أو مارس، دليل على فقدان البوصلة في ما يخص الحياة الثقافية.
صحيح أنه غالبا ما يتم تحديد ضيف شرف، غالبا ما تتدخل في اختياره اعتبارات سياسية، لكن أن ننتظر نصف عام من الركود لنشهد معرضا للكتاب، فهذا يعد في حد ذاته مؤشرا على نوعية وجودة الحياة الثقافية التي نمتلكها، دون أن ننسى طبعا، أن هذا المعرض لا يعكس بالضبط اهتمامات الرأي العام المغربي. وإلا فلننظر إلى عدد الكتب والإصدارات التي سيحتضنها المعرض المقبل بخصوص الجهوية وعلاقتها بالثقافة مثلا. وكم عدد الندوات التي ستناقش فيها وضعية الثقافة في مشروع الجهوية المتقدمة، والتي يعتبرها الدستور الجديد بمثابة هوية لمغرب ما بعد 2011. بل نجد فسيفساء من العناوين غالبا ما تتحكم فيها أجندات تجارية محضة، وخاصة تحكم نفوذ دور النشر الكبيرة في إيقاع القراءة. فبالرغم من كون الجهوية مثلا، هي اختيار تدبير ثقافي، هو بمثابة فلسفة حياة حديثة، فإنه من الطبيعي جدا أن نجد «تفسير الأحلام» «لابن سيرين» يباع إلى جانب تفسير الأحلام لفرويد، مع أن الفرق بينهما كبير جدا، فالأول ينتمي للاهوت والثاني للعلم.
الأمر نفسه عندما نجد كتب عائض القرني والسويدان تباع في المعرض نفسه مع كتب جاك لاكان وكلاين. ونجد كتبا تعتبر الداروينية علما إلى جانب كتب تعتبر الحاكمية لله مبدأ يوجب التكفير لرافضيه. قد يسمي البعض هذا اختلافا وتنوعا، ولكنه في العمق يسمى فقدان هوية، فحياتنا الثقافية بدون ملامح، بدون رهانات. فما تحدث عنه الدستور الجديد مثلا في الاعتراف الرسمي بالثقافات المغربية الخمس: العربية والأمازيغية والموريسيكية والعبرية والصحراوية، يمكن أن يشكل أرضية حقيقية لنقاش ثقافي متعدد الأبعاد، سيما عندما نجد أن الاعتراف الدستوري بتعدد كهذا، له علاقة بمغرب حداثي نسعى كأمة لتأسيسه.
في هذا السياق الثقافي مبهم الملامح، من الطبيعي جدا أن يكون المهتمون بالثقافة إداريين وبدون أفق. فهم ككل الموظفين يحصلون على عطلة ليسافروا إلى البلدان الأوربية، ليروا اجتهادات نظرائهم في تنشيط الحياة الثقافية في المنتجعات والشواطئ، لذلك يستغرب المرء الزائر لشواطئ جنوب إسبانيا وجنوب فرنسا مثلا، الحضور المتميز للكتاب. بينما يغيب في شواطئنا لتحضر بالمقابل الحفلات البليدة التي يحييها مغنو الحانات والنوادي الليلية، وبعدها يعودون إلى مكاتبهم المكيفة ليطلبوا من مندوبي الوزارة أن يضعوا البرامج الجهوية والإقليمية والمحلية. وأن تكون لهم رؤية واضحة عن اهتمامات الرأي العام المغربي.
فالحياة الثقافية في الأمم المتحضرة، والتي تولي أهمية قصوى للثقافة والفن غير متوقفة على المؤسسات الرسمية، ففي الوقت الذي افتتحت المتاحف ودور النشر والمكتبات العامة دخولها الثقافي في فرنسا وإسبانيا، مع ظهور قضايا ثقافية جديدة تمتح من المعاش اليومي.. ماتزال المؤسسات الثقافية الرسمية بالمغرب لا تملك القدرة على أن تستقل على زمن السياسة. فبالرغم من أن حدث الانتخابات الجماعية والجهوية يبقى مجرد حدث عادي إذا ما تمت مقارنته بمجمل الحياة العامة بالمغرب.. فإن وزارة الثقافة قررت أن تكون في عطلة كأي إدارة، وكأن الشعب لن يكون في حاجة للثقافة والفن في غشت. لذلك لا عجب، داخل هذا التصور الأعوج للدور الحقيقي للمؤسسات الثقافية الرسمية في مجال حيوي كهذا، إذا وجدنا أن كل مسؤولي وزارة الثقافة كانوا خارج التغطية طيلة شهر غشت، ولم يعودوا إلى مكاتبهم إلا بعد الانتخابات، ليشرعوا في عملهم المكتبي المعتاد. والمثير هنا، هو أنه بالرغم من مرور شهر تقريبا على العودة من العطلة، لم تنجز الوزارة الوصية على الثقافة أي برنامج سنوي لأنشطتها. والمعارض والأنشطة الجهوية ماتزال معزولة ومحتشمة، فمسرح محمد الخامس لم يبدأ بعد لكونه يخضع للترميم. بمعنى أن الفرق المسرحية لم تبدأ عروضها بعد.
أما اتحاد كتاب المغرب، الذي يفترض أن يكون الوجه المدني للثقافة، بما هي حرية ونقد وتحرر من الرسمي، فقد وضع قبل أيام برنامجا لما أسماه «الدخول الثقافي». ومن يقرؤه سيستنتج أنه من المستحيل بالنسبة لمنظمة تلملم نخبة المغرب أن تسطر برامج لا تعدو أن تكون برامج جمعوية محلية. فنجد برمجتها لتوقيع كتاب ومحاضر عن الجهوية، وبضعة أنشطة تافهة لا يربطها أي موضوع رئيسي.