الدانمارك ورهاب الآخر
صبحي حديدي
ليست الواقعة «تاريخية» تماما، كما شاءت منابر كثيرة توصيف محاكمة إنغر ستويبرغ، وزيرة الهجرة والاندماج الدانماركية السابقة، بتهمة الإخلال المتعمد بالمسؤوليات المناطة بمنصبها، وانتهاك بنود صريحة في الاتفاقية الأوروبية حول حقوق الإنسان؛ والحكم عليها استطرادا، بالحبس 60 يوما مع وقف التنفيذ تلقائيا، بالنظر إلى أن عقوبة الحبس التي تقل عن ستة أشهر غير قابلة للتنفيذ. وكانت ستويبرغ قد أصدرت أوامر إدارية وقانونية، سهرت شخصيا على حسن تنفيذها، قضت بفصل طالبي اللجوء المتزوجين إذا كان عمر أحدهما يقل عن 18 سنة، من دون دراسة الظروف الملموسة لكل عائلة، خاصة في حال وجود أطفال. وتلك قرارات أسفرت عن فصل 23 عائلة، منذ العام 2016.
المحكمة الخاصة التي حاكمت ستويبرغ، المؤلفة من 26 قاضية وقاضيا، ويوكل إليها النظر في مقاضاة الوزراء في قضايا الإهمال أو سوء التصرف، كانت هي ذاتها التي حكمت على نين – هانسن بالحبس أربعة أشهر. قبلها ثمة واقعة تعود إلى عام 1910، لا علاقة لها بالهجرة والمهاجرين هذه المرة لأنها أدانت وزير العدل يومذاك، بيتر أدلر ألبرتي، بتهمة التصرف في 900 مليون كرون سُرقت من مصرف التوفير الزراعي. وفي سجل المحكمة الخاصة هذه، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى سنة 1849 بموجب الدستور الدانماركي، ثلاث حالات تبرئة من أصل ست قضايا؛ ولعل التفصيل الوحيد الذي يمكن أن يستحق الصفة «التاريخية» في محاكمة ستويبرغ، هو أن التصويت جاء لصالح الإدانة بمعدل ساحق: 25 إلى 1!
والحال أن المشكلات التي تنجم عن احتكاك اللاجئين بالبنيات الاجتماعية والقانونية والمعيشية والثقافية والنفسية في البلدان المضيفة، والتي يحدث أن تتناقض أو تتعارض مع نظائرها في البلدان الأم، ليست جديدة ولا طارئة أو مفاجئة؛ حتى إذا كانت قد تفاقمت أكثر من ذي قبل مع صعود خطابات التبشير الإسلاموية المتزمتة وطرائق التجنيد الجهادي والإرهابي. وما سُمي بـ«الاستثناء النوردي»، نسبة إلى تجارب الدول الإسكندنافية في استقبال الآخر أو إكراهه، سقطت أركانه التأسيسية تباعا إلى درجة بات الباحثون الإسكندنافيون أنفسهم يعتبرونها «سلوكيات ما بعد كولونيالية».
بهذا المعنى لم يكن غريبا أن تصدر قوانين ستويبرغ عن شخصية اتصفت بالتشدد ضد المهاجرين، وأصدرت سلسلة إجراءات ذات محتوى تنكيلي وزجري صريح؛ كان أشهرها «قانون المجوهرات»، الذي يمنح موظفي دوائر الهجرة الحق في مصادرة ما يملك طالب اللجوء من حلي وأموال، وذلك للمساهمة في تغطية نفقات إقامته. وبين عامي 2015 و2019 كانت ستويبرغ وراء 110 تعديلات قانونية وإدارية، استهدفت التضييق على طالبي اللجوء واللاجئين وتقييد ما أمكن من فرص حصولهم على الإقامة؛ وكان بالغ الدلالة ذلك المشهد، الهابط المبتذل كما يتوجب القول، الذي شهد سعادتها بإصدار القرار الـ50 عن طريق تنظيم حفل احتفائي وقَطْع قالب كاتو!
ولم يكن عجيبا أن ستويبرغ، في التعليق على قرار المحكمة بإدانتها وحبسها، لجأت إلى كليشيهات التنميط العتيقة المستهلكة ذاتها، التي تتقنع بحكاية «القيم الحضارية» والحرص على حقوق الإنسان ورفض «إكراه» المرأة بصفة خاصة: «أعتقد أنني لم أكن الوحيدة التي خسرت اليوم، بل كانت القيم الدانماركية هي التي خسرت»؛ وكذلك: «لو تعين علي أن أعيش مع حقيقة أنني لم أكفل الحماية لهؤلاء الفتيات، لكان هذا أسوأ فعليا من هذا الحكم». ولكي تكون الحال أكثر وضوحا لجهة الاشتمال على العناصر الأخرى المكملة، تجدر الإشارة إلى أن الوزيرة السابقة لم تكن تصدح، بقراراتها ومواقفها وقناعاتها، خارج السرب الأعرض الحزبي والبرلماني والإعلامي؛ وتستوي في هذا أحزاب اليمين والوسط واليسار، والائتلاف الراهن الذي يقوده الحزب الاشتراكي الديمقراطي أصدر القوانين الأكثر تشددا على نطاق الديمقراطيات الغربية، وتابع تنفيذ الغالبية الساحقة من توجهات الائتلاف اليميني السابق الذي هزمته صناديق الاقتراع.
وعلى سبيل المثال الأول، تزمع الحكومة ترحيل نحو 500 من اللاجئين السوريين، بعد أن كان 254 على الأقل من هؤلاء قد فقدوا وضعية اللاجئ، وهم إما في وضعية الاستئناف أو الإشعار بالترحيل؛ وكل هذا استنادا إلى تقرير «مكتب دعم اللجوء الأوروبي» التابع للاتحاد الأوروبي، والذي اعتبر أن منطقة «دمشق الكبرى» في سوريا آمنة، ويمكن للاجئين العودة إليها. غير أن التقرير ذاته، رغم خلاصاته القاصرة واستنتاجاته السقيمة، يقر بأن العائدين القلائل تعرضوا للاعتقال والتنكيل والابتزاز! المثال الثاني أن حكومة «اليسار» الراهنة قد عقدت صفقة خبيثة مع اليمين والتيارات الشعبية في البرلمان، تخول الجهات الحكومية المختصة بإقامة معسكرات إقامة جبرية خارج حدود أوروبا، تُلزم طالب اللجوء بالإقامة فيها ريثما يصدر قرار قبول طلبه أو رفضه.
وأما المثال الثالث، الفاضح والكلاسيكي الذي يحاكي نموذج غوانتانامو الأمريكي، فهو جزيرة لندهولم غير المأهولة، التي سوف تحولها سلطات السجون الدانماركية إلى معسكر اعتقال هائل، بمساحة سبعة هكتارات، يُنقل إليها طالبو اللجوء الذين لم يحصلوا على الإقامة، ولكن قرارات ترحيلهم لم يتم البت فيها نهائيا، بالإضافة إلى أولئك الذين رُفضت طلباتهم. وليس مدهشا أن الجزيرة كانت تابعة للجامعة التكنولوجية، ومخصصة لإجراء التجارب البيطرية على الماشية والخنازير، وكانت الطوافة التي تنقل الباحثين إلى الجزيرة تدعى، من باب التندر الصائب: الفيروس!
نافذة:
الائتلاف الذي يقوده الحزب الاشتراكي الديمقراطي أصدر القوانين الأكثر تشددا على نطاق الديمقراطيات الغربية وتابع تنفيذ الغالبية الساحقة من توجهات اليمين