مؤخرا طفا على سطح الأحداث خلاف شخصي بين ممثلين وصل بهما إلى الطلاق، وطالبت الزوجة بإسقاط حق الحضانة عن الزوج بسبب أنه يرفض تسجيل ابنه في مدرسة البعثة الفرنسية بسبب نمط تعليمها العلماني، قادت الأم معركة إعلامية لكن ذلك لم يؤثر على قرار المحكمة التي رفضت إسقاط حق الحضانة عن الأب.
يكشف هذا الصراع عن رغبتين، رغبة في تدريس الابن بمدارس عمومية تضمن دروسا في الدين والتربية الاسلامية وبين رغبة في تدريس الابن في مدرسة ذات تعليم لائكي.
ويعكس أيضا هوس العائلات المغربية من الطبقات الوسطى بتسجيل أبنائها في مدارس البعثة الفرنسية رغم أسعارها الباهظة وشروطها التعجيزية.
في سنة 1980 كان المغرب أغنى من الصين بخمس مرات. والسبب أن الصين ركزت على التعليم وتكوين النخب.
أحد الأسباب المباشرة لتخلف تعليمنا هو التبعية العمياء للنموذج التربوي الفرنسي، الذي يعد الأسوأ في أوروبا، باعتراف الفرنسيين أنفسهم، ومن يرجع إلى الضجة الإعلامية والسياسية التي خلفها أحد التقويمات الدولية في التمكن من اللغات يسمى “بيرلس”، والذي خضع له تلامذة الابتدائي هناك، وتقويم آخر استهدف تلامذة الإعدادي يسمى “تيمس”، وتقويم ثالث استهدف تلامذة الثانوي ويسمى “بيزا”، سيكتشف أن فرنسا فاشلة، وفشلها شامل يعم كل مستويات التلاميذ. ففي هذا التقويم الأخير، أي “بيزا”، نجد أن فرنسا احتلت المرتبة 24 من 72 دولة، حتى أن تلامذتها لم يحصلوا على المعدل في الرياضيات والعلوم. في حين احتلت دول شرق آسيا، كسنغافورة والتايوان وكوريا واليابان وماليزيا المراتب الأولى، تليها الدول الإسكندينافية.
فالملاحظ هنا هو أن الفرنسيين أضحوا مقتنعين أكثر بكون “عصرهم الذهبي” في التعليم ولى وانقضى، ولا عجب أن نجد وفودا رسمية، تتكون من خبراء في التعليم، تتجه إلى آسيا للتعلم وأخذ الخبرة.
هذا طبعا هو التعليم الفرنسي في عيون الفرنسيين. أما في عيوننا، فما زالنا لم نغير نظرة الانبهار والإعجاب. العجيب هنا، هو أنه لو اطلعنا على لائحة الدول التي يزورها سنويا المسؤولون المغاربة عن التعليم، قصد “الاستفادة” من التجارب، فإننا سنتفاجأ بأن عدد المرات التي زار فيها هؤلاء المسؤولون ماليزيا وسنغافورة وكوريا واليابان تعد بالعشرات، لكن بدون ثمار، إذ تتحول إلى سياحة لا غير، في حين أن زيارتهم لفرنسا لا تكون بغرض السياحة بل بغرض التعلم وأخذ “الخبرة” وتطبيقها حرفيا هنا في المغرب. ففرنسا التي أضحت تلميذة لدول غرب آسيا مازلنا نحن نعتبرها “أستاذة”، ومن سمع وزير التعليم العالي يرطن بلغة موليير في اجتماع للمجلس الأعلى للتعليم سيفهم كل شيء.
فالمسألة لها علاقة مباشرة بما يطلق عليه تكوين النخب، ففرنسا مطمئنة إلى أنها ستبقى مهيمنة على المغرب اقتصاديا وثقافيا وسياسيا مادامت معششة في عقول نخبنا، فيما نحن أيضا مطمئنون إلى تبعيتنا لها، وحالنا كحال الجن والعفاريت في قصة سليمان عليه السلام، إذ ظلوا خاشعين في حضرته معتقدين بأنه يراهم، بينما هو مات منذ مدة طويلة حتى كشفت دودة موته بأن نخرت عصاه التي كان يتكئ عليها فخر ساقطا.
فاختيار الدولة الفرنسية إنشاء مدارس البعثات في كل مستعمراتها كان بهدف الحفاظ على مصالحها عبر التحكم في تكوين النخب، وما كان يكلفها البقاء السياسي والعسكري على الأرض أضحت تربحه بشكل مضاعف وهي تتحكم في عقول وقلوب النخب. ففي كل سنة يتخرج حوالي 4 آلاف تلميذ من الأقسام التحضيرية، ويكلفون الدولة أكثر من عشرة ملايين سنتيم سنويا لكل تلميذ، والملاحظ هو أن أول ما يقومون به مباشرة بعد التخرج هو الإعداد للمباريات الفرنسية، كل سنة يهاجر نحو 250 تلميذا مغربيا متفوقا، من الذين حصلوا على النقط الأولى في مؤسساتهم التي يزيد عددها عن 13 مؤسسة بالمدن المغربية، التلاميذ المغاربة يحلمون بمدارس البوليتيكنيك أولا، ثم مدارس المعادن والقناطر، ثم مدارس ”المركزية” في باريس. بغض النظر عن الروابط الاستعمارية التاريخية تربط المغرب بفرنسا اتفاقيات تربوية وعلمية بمقتضاها تم استنساخ تجربة هذه الأقسام التحضيرية ونقلها إلى المغرب.
برامج هذه الأقسام ومقرراتها الدراسية، وحتى الإشراف على تنفيذ تلك البرامج، كله كان فرنسيا في البداية، ولا زال قائما في جزء كبير منه. فرنسا تواجه اليوم نزيفا في مهندسيها وخبرائها وهي تضطر إلى التعويض من مستعمراتها السابقة. لتلك الأسباب، يتسابق نحو 4 آلاف تلميذ مسجل في مراكز الأقسام التحضيرية بالمغرب إلى المشاركة في المباراة الفرنسية للأقسام التحضيرية وهو امتحان يعتبر بمثابة القنطرة نحو تحقيق الحلم. مع الإشارة هنا إلى رقم مالي رسمي، اعترفت به الدولة الفرنسية قبل سنتين، وهو أن عائدات تمدرس الطلبة الأجانب، والذين ينحدرون من دول فرانكفونية مثل المغرب تتجاوز 3 مليارات أورو سنويا.
وخلال السنوات الأخيرة لا حديث في أوساط المسؤولين المغاربة، مركزيا وجهويا وإقليميا، إلا عن تعميم “التعليم الدولي”، وما يسمونه دوليا، إنما في الحقيقة هو التعليم الفرنسي، حيث قام المديرون الإقليميون بخلق أقسام في كل الإعداديات يتم فيها تجميع كل المتفوقين في الفرنسية تحديدا، ليتعلموا الرياضيات والعلوم بلغة موليير. بل إن عددا من المديرين الإقليميين الذين تم إعفاؤهم، كان ذلك بسبب ضعف أدائهم في خلق أقسام التعليم الفرنسي.
فتلاميذ “الخيار الفرنسي”، يخصص لهم أفضل الأساتذة، بينما الذين يعانون من مشكلات في هذه اللغة يتم تكريس مشكلاتهم بتدريسهم بالعربية، وهذا التوجه الجديد أضحى هوسا حقيقيا الآن، وصل حد التهديد بإقالة كل مسؤول لم يطبقه. هوس وصل بمدير إقليمي في جهة الرباط القنيطرة حد “الاجتهاد” وفرض تعليم المواد العلمية بالفرنسية في المستوى الابتدائي. هكذا لم نعد أمام المعادلة القديمة، حيث المدرسة الوطنية كمقابل للمدرسة الأجنبية، الأولى للعموم والثانية للنخب، بل أضحت المدرسة العمومية مخترقة بالنموذج الفرنسي، سواء على مستوى البرامج أو على مستوى المقررات الدراسية، حيث يتم تقسيم أبناء الشعب، في آخر السنة، إلى تلاميذ متفوقين يفرض عليهم “الخيار الدولي”، وذلك بناء على النقط التي حصلوا عليها في الفرنسية، وهؤلاء تولى لهم عناية خاصة، حيث لا يتعدى عدد تلامذة القسم 30 تلميذا، فيما يتم تكديس الباقي في ما يسمى “الخيار العادي” لمن لا يتقنون هذه اللغة.
والمضحك المبكي هنا، هو أن كل المقررات الدراسية المعتمدة في الخيار الفرنسي مستوردة، لكون الوزارة لم تصادق حتى الآن على مقررات مغربية للخيار الفرنسي. وفي السنة الماضية، فرضت مديرية التعليم بالقنيطرة على التلاميذ اقتناء ثلاثة كتب فرنسية مستوردة، تبلغ كلفتها 600 درهم لوحدها فقط. كل هذا ليظهر المسؤولون بهذه الجهة أنهم “مجتهدون” في تعميم الخيار الفرنسي.
إذن، ففرنسا هي المستفيد الأول من هذه التبعية لنموذجها التربوي الفاشل، تستفيد استراتيجيا من خلال صناعة النخب التي تدافع عن مصالحها، وتستفيد الآن اقتصاديا، ومن يطلع على لائحة طلبة مدارس عليا فرنسية شهيرة، سيكتشف أن ثلثي طلبتها من الأجانب. فالتلاميذ الفرنسيون لم يعودوا يهتمون باللغات والعلوم، وتنافسية الاقتصاد الفرنسي، خاصة في الصناعات الجديدة، المرتبطة بما يسمى “الذكاء الاصطناعي” هي تنافسية ضعيفة جدا، بسبب التدني الكبير لمستوى تلامذتها، لذلك تعمل جاهدة على استقطاب خيرة تلامذتنا، وأحيانا بمنح، وأغلب هؤلاء لا يعودون إطلاقا ليستفيد منهم المغرب، اللهم إلا كسائحين يختصرون المغرب في ثعابين وقردة جامع الفنا. بل إن الاستقطاب لا يتوقف على التلاميذ، بل يشمل المهندسين أيضا، وهذا باعتراف سعيد أمزازي وزير التربية الوطنية السابق، والذي تحدث عن هجرة 600 مهندس مغربي سنويا، نصفهم يستقر نهائيا في فرنسا. لتصبح فرنسا كما قلنا هي الرابحة الكبرى ويصبح المغرب هو الخاسر الأكبر. فنحن نصرف أموالا طائلة على تعليم التلاميذ، وعندما يحصلون على الباكلوريا تستقطبهم فرنسا، ومن تبقى منهم يكلفوننا الملايير ليحصلوا على ديبلومات الهندسة، وعندما يتخرجون يهاجرون.
هكذا ففرنسا الفاشلة في التعليم ماتزال مصرة على ممارسة الأستاذية علينا نحن، فهي سحبت أغلب أساتذتها الحاملين للجنسية الفرنسية الذين كانوا يعملون بمدارس البعثات، وعوضتهم بمتعاقدين مغاربة يطبقون توجيهات الدولة الفرنسية، بل وفرضت علينا أن نعمم التدريس بالفرنسية، ليس كاختيار في مرحلة الباكلوريا كما كان معمولا به قبل ثلاث سنوات، بل تعميمه على كل الإعداديات ابتداء من السنة الأولى. ليصبح تقييم تلامذتنا مبنيا على معيار واحد ووحيد: من يتقنون الفرنسية ومن لا يتقنونها.