الخوف من استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل
بات من المؤكد وفي تراجع سافر عن المكتسبات الدستورية والحقوقية أنه يراد للسلطة القضائية أن تكون ضعيفة تابعة، رغم أن الدستور ارتقى بها إلى سلطة مستقلة.
ولعل ذلك راجع في نظري إلى عقلية التخوف من السلطة القضائية والتي اتخذت شكلين، الأول وجه إلى المواطن، فتم الحديث عن مصطلحات ضخمة وغريبة مثل «دولة القضاة» و«ديكتاتورية القضاة» و«تغول القضاة»، إذ كان في مطالبة القضاة بما يخوله لهم القانون من حقوق وواجبات أن اعتبروا كمن يأتي على الأخضر واليابس!.
وقد رافقت ذلك تصورات ومفاهيم وممارسات تحمل في طياتها التناقض، فهكذا نجد وزير العدل يعبر عن قناعاته الشخصية الرافضة لاستقلال النيابة العامة عن وزارته، وهي قناعة أغلبية النواب البرلمانيين، لما في ذلك بحسب زعمهم من ضمانات للمواطن، وذلك عكس ما خلص إليه الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، وقد تأسس هذا الاتجاه على أسانيد «باطلة» يمكن إيجازها في نقطتين:
– عدم الاعتراف بالنيابة العامة كسلطة قضائية مستقلة.
– عدم إمكانية مراقبة النيابة العامة في حال ما جعلت تحت إشراف الوكيل العام لمحكمة النقض، في حين يمكن محاسبة وزير العدل حول تطبيقه للسياسة الجنائية بواسطة البرلمان.
فبصرف النظر عن الأسس النظرية لمراقبة السلط لبعضها البعض، ذلك أن أي نظام سياسي يحمل مزايا وعيوبا، فإن مراقبة السلط لا تعني ولم تكن لتعني أن تمارس سلطة مهام سلطة أخرى لتمكين غيرهما من ممارسة حقها الرقابي، فلا يمكن القول بجعل السلطة التنفيذية تمارس اختصاصات قضائية صرفة لتمكين البرلمان من المراقبة!.إضافة إلى ذلك وخارج الضوابط الدستورية المكتسبة فإن هذا المنطق يقود إلى متاهات فكرية، إذ على ضوئه يمكن أن نتيه بفكرنا، فمثلا يمكن التساؤل عن ضرورة مراقبة البرلمان للقضاء الجالس! وضرورة مراقبة القضاء للحكومة ووزير العدل باعتباره حاليا على رأس النيابة العامة!
إن التطور الطبيعي للأمور حول ممارسة السلطة في المجتمعات هو الذي يؤدي إلى خلق ضوابط السلط عن طريق تحديدها في الدستور، إذ الثابت في بلدنا أن وزراء العدل تعاقبوا على ترؤس النيابة العامة على مر عقود وكثيرا ما استعمل القضاء كأداة للضرب به، خاصة إبان سنوات الرصاص، ومن هنا كثرت التوصيات والمطالبات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر حول ضرورة استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل، كتوصيات هيأة الإنصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وجل جمعيات حقوق الإنسان والمجتمع المدني بشكل عام، فلا يمكن أمام هذا الواقع أن يبقى الحال على ما كان تحت أي مسوغ يثبت التاريخ عدم صموده.
وفضلا عن ذلك، وهذا هو الأهم، فإن الدستور نفسه يسير في اتجاه اعتبار القضاء سلطة مستقلة بما في ذلك النيابة العامة، إذ عنون الباب السابع من الدستور «بالسلطة القضائية» وقد نظم فيه حقوق وواجبات القضاة سواء انتموا إلى القضاء الجالس أو القضاء الواقف، وقد استهل هذا الباب بالفصل 107 منه الذي ينص على أن «السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية»، كما أنه لا مجال لمراقبة البرلمان للسلطة القضائية إذ هي محصورة بالعمل الحكومي، استنادا على الفصل 70 من الدستور.
ويبقى للبرلمان دور مهم في المساهمة في خلق سياسة جنائية ناجعة والتي تم الخلط بينها وبين سلطة الاتهام، اعتبارا لكون هذه السياسة تهدف إلى العمل بكل التدابير والوسائل الكفيلة بزجر الجريمة سواء بواسطة التجريم والعقاب أو بواسطة إجراءات احترازية ووقائية للحد من ظاهرة الإجرام وذلك عن طريق سن قوانين فعالة ومراقبة عمل الحكومة في سهرها على الشأن العام سيما الاقتصادي والاجتماعي منه، من تعليم وصحة وتشغيل إلى غير ذلك، لأن هذه المراقبة تصب في إنجاح السياسة الجنائية بمفهومها الواسع.
وفي جانب آخر، فإن جل السياسات الجنائية تعطي للقاضي سلطة تقديرية واسعة محددة بضوابط قانونية، خاصة في مسألة تفريد العقاب، إلا أن الحاصل عندنا – وفي تناقض صارخ – يتم تمرير تصورات تحد من هذه السلطة التقديرية، مثل ما أشارت إليه توصيات الحوار الوطني، وما جاء في مسودة مشروع القانون الجنائي، فكيف لدستور يمنح للقاضي مسؤولية حماية حقوق وحريات الأفراد والجماعات، إذ نص الفصل 117 منه على أن «يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون» وفي نفس الوقت تتم الدعوة إلى الحد من سلطته التقديرية، إذ من خلال هذه السلطة يتم مراعاة جوانب لا يمكن في حال من الأحوال للسلطة التشريعية مراعاتها من قبيل المجرم وشخصيته، دوافع ارتكاب الجريمة، الخطورة الإجرامية، وظروف ارتكاب الجريمة، وكل ذلك في صالح الفرد والجماعة، خاصة أن مبدأ التقاضي على درجتين يشكل ضمانة أساسية في حالة ما إذا أسيئ استعمال هذه السلطة.
نجد كذلك وعلى خلاف ما تعرفه الساحة القضائية من حراك بهدف الإصلاح المزعوم إصدار مذكرات من طرف وزير العدل ماسة بحقوق القضاة معيبة شكلا وموضوعا إذ هي ليست من اختصاص الوزير شكلا ومخالفة للقانون مضمونا وذلك من قبيل اعتماد الطبع على الحاسوب كمعيار للتنقيط وتنظيم الرخص السنوية. كما تم تكريس مذكرات عامة عبارة عن تعليمات موجهة للنيابة العامة وكأنها أصبحت نصا تشريعيا في عموميتها وتجريدها، فأجهضت سلطة الملاءمة التي لا تقتضي التجريد والعمومية، (لعل في قضية قاضي صفرو خير مثال على ذلك).
والشكل الثاني من التخوف من السلطة القضائية نفسي إذ أن السياسي يخاف من سحب البساط منه ويخاف من أن يحاسبه القضاء ويعاقبه إذا ما أخطأ، فلا غرابة أن يصرح وزير العدل في حوار صحفي بما معناه أن السياسة الجنائية الحالية تعمل على عدم تسليط سوط القضاء على ممارس السياسة في كل تصريح له ولو زاغ قليلا بهدف عدم التشويش على الممارسة السياسية، فحتى وإن تم قبول هذا الطرح على أساس أن الأمر يتعلق بتصريحات مجردة أثناء الممارسة السياسية، فإن وزير العدل لم يعبر بشكل صريح حول مسألة الإفلات من العقاب من خلال ممارسته للاتهام من عدمه كلما تعلق الأمر بالسياسي أكان برلمانيا أو حكوميا إذا ما أقدم على فعل جرمي أضر بالمجتمع كاستغلال النفوذ والرشوة ونهب المال العام، وذلك بالرغم من أن الحوار الصحفي تضمن أسئلة حول هذه المسألة، فشتان بين الاثنين.
ولعل في قرار الوزير تأجيل البت في الشكايات الخاصة بالتدبير المحلي، مبررا ذلك بأن جلها تتم على سبيل التشهير ما يحمل التناقض عما قيل حول سياسته الجنائية التي لا تسلط القضاء على تصريحات السياسيين، علما أن الحقيقة هي أن هذا التأجيل يرجع لاعتبارات سياسية، ترتب عنها تأجيل حق الدولة في العقاب عن طريق غل يد القضاء.
إنها إذن السياسة التي تتلون بالألوان وبها تتغير المواقف بتغير المصالح، بينما العدل عن طريق الحكم بين الناس طبقا للقانون لا لون له، لذا حان الوقت أكثر من أي وقت مضى كي يعمل القضاة كرجل واحد للدفاع عن المكتسبات الدستورية، لنتمكن من تولي مهامنا الجسيمة بما يكفل حسن سير العدالة وتمكين المواطن من حقه وحمايته من كل تعسف وطغيان.