بقلم: خالص جلبي
سألني أحدهم: «هل رادع الخوف من الدمار وحده كاف لإنهاء الحروب، ليحل السلام في العالم، أم السلام بالإسلام الحقيقي؟».
وجوابي أن رادع الخوف من الله لم يصنع السلام بين المسيحيين، خلال ألفي سنة. كما أن رادع الخوف من الله لم يصنع السلام بين المسلمين، خلال ألف وخمسمائة عام، بدءا من معركة صفين وانتهاء بحرب الخليج. ولكن الرادع النووي صنع السلام بين الذين دخلوا هذا العالم، وهذا ليس عيبا في الإسلام ولا نقصا فيه. والرادع النووي صنع السلام والرادع الديني لم يصنع سلاما. عفوا ينبغي أن لا نخطئ، فلماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ ولماذا لا نعتبر أن الرادع النووي رادع إلهي أيضا يجري وفق سننه؟
فهذا ما يقول الله عنه إذا كنتم لا تصنعون السلام لأني أقول لكم ادخلوا في السلم فدخلتم الحرب، فلسوف أرغمكم بآيات الآفاق على الدخول في السلم كافة، فهذا معنى انظروا وانتظروا.
إن لم يحصل لكم إيمان بالموعظة فسيحصل لكم إيمان رغما عنكم بعواقب الأمور. ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها، وظلالهم بالغدو والآصال.
والحرب يدخل إليها الإنسان طمعا في النصر، ولكن إذا تأكد من الهزيمة والموت، فإنه لا يقدم عليها إلا كما يقدم على الانتحار. وطبعا فإن عدد المنتحرين دون شك أقل من الذين يموتون موتا طبيعيا.
والنموذج على إنارة (الواقع) لـ(الألفاظ) كلمة (القلوب) المذكورة في القرآن، فهو يشير إلى أن القلوب هي التي تفقه، أي أن القلب هو عضو الفهم، «لهم قلوب لا يفقهون بها»، ولكن التعامل مع (الواقع) كشف أن القلب لا يزيد على مضخة للدم ولا علاقة له بالفقه. و(الواقع) هو الذي بين أن هذا القول حقيقة أو مجاز أو خيال، والذي أثبته الطب أن عمليات زرع القلب لم تغير شخصية الإنسان، والذي يغير الفهم هو آفات الدماغ. فهذا الذي قاد إليه لم تكن النصوص، بل الواقع. وهذا المثل يدل على أن هذا التسلسل هو الذي كان يحدث على مر التاريخ. والأمور التي اختلف حولها الناس تحولت إلى مسلمات لا تناقش، حتى يأتي من يكسرها من جديد، فيتقدم التاريخ على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. نحن الآن نصاب بصدمة في مثل هذه الأمور، ولكن سبب الصدمة جدة الموضوع وصدقه وواقعيته، فالناس ينكرون الأشياء الجديدة في أول الأمر، ولكن بعد أن يشهد الواقع يضطرون أن يتكيفوا معه. وفي القصيم من السعودية حدثت معركة كبرى حول استخدام مكبرات الصوت للأذان، قبل أربعين سنة، استنادا إلى النصوص أنها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. واليوم وبدعوى النصوص وفي المدينة نفسها «بريدة» لا يرفع صوت الأذان، إلا بمكبرات الصوت، وأحيانا ولساعات في السحر لقيام رمضان في قلب مستشفى فوق رؤوس المرضى، في عمل لا يوصف بأنه في صالح المرضى، ولكن من يستطيع الاعتراض؟
وما كتبت سابقا يصيبني بالزهد، كمن يخض الماء، لأن إعادة القول مرارا غير مفيدة وجدواها في المستقبل القريب المنظور قليلة. لأن قانون التاريخ يقول: إن الشيء الذي يسلم به كثير من الناس يسهل قبوله، ليس لأنه صواب، بل لأن التسليم به لا يحدث معارضة وحرجا. ولكن الأمر الذي ينكره الناس، وخاصة حين يتم الإجماع على إنكاره، يفقد الإنسان القدرة على إدراكه، وعندما جاء النبي بالصدق قالوا عنه كذاب أشر، سيعلمون غدا من الكذاب الأشر؟
إن معرفة التاريخ تظهر كيف مر البشر بمثل هذه المنعطفات فكانوا يرفضون أمورا ثم يقرون بها، وكانوا يقبلون أمورا أخرى، ثم يتركونها. ورؤية نماذج من هذا النوع تجعل الإنسان يتشكك في الأشياء التي نسلم بها أنها ليست خالدة أبدية، والله وحده هو الأبدي السرمدي ليس كمثله شيء، ولكن المخلوقات متغيرة. ولو تيسر للإنسان أن يراقب وضع الكرة الأرضية فكريا ونشوء الحياة فيها وأنواع الحيوانات التي عاشت فيها، وكيف أن الحياة كلها بدأت ذات يوم في الماء، ثم صارت اليابسة، ثم وجد الإنسان، فقد يطرح السؤال نفسه، لماذا لا يخطر في بالنا أن هذا الخلق لا يزال مستمرا؟ لماذا لا يخطر في بالنا أن الخلق لم يتوقف، ولا يزال يخلق ويزداد في الخلق وأن هناك نشأة أخرى؟ ويزيد في الخلق ما يشاء. إن الميزة الكبرى للإنسان أنه يستفيد من التاريخ، ومعرفة كيف بدأ الخلق هي التي تدل على استمرار الخلق والزيادة فيه. ونحن البشر لم ندرك تاريخ الأرض، إلا منذ مائتي عام، فما هي المائتا عام بالنسبة إلى ملايين السنوات التي عاشتها الأرض وليس فيها كائنات عاقلة. إن التاريخ سيضطر المسلمين إلى أن يغيروا فهمهم للقرآن، وعند هذه النقطة فإن المسلمين يقفون من التاريخ موقفا سلبيا ولا يعترفون بالتاريخ العام، وإنما بتاريخهم فقط، بينما لا يأخذ تاريخهم حجمه الحقيقي سلبا وإيجابا، إلا إذا نظر إليه من خلال التاريخ العام. حدثني صديق لي أن بعض الناس تشككوا في وصول الناس إلى القمر، عندما أعلن ذلك، فاجتمعوا ليتخذوا قرارا في هذا. وأثناء بحثهم قال أحدهم: إذا تبين فعلا أنهم وصلوا إلى القمر فماذا سنقول؟ قالوا: سنقول إن فهمنا للقرآن كان خاطئا.
نافذة:
التاريخ سيضطر المسلمين إلى أن يغيروا فهمهم للقرآن وعند هذه النقطة فإن المسلمين يقفون من التاريخ موقفا سلبيا ولا يعترفون بالتاريخ العام وإنما بتاريخهم فقط